الجماهير- عتاب ضويحي
تعج ذاكرة الكبار بصور من الزمن الجميل، وتقف على أبوابها مشاهد لاتغيب عن البال، تتجول في شوارعها وتستذكر حكايات وتسمع أصواتاً ملتصقة بجدرانها، تخونهم ذاكرتهم أحياناً وتسعفهم أخرى، لكن الحديث عن شيء متجذر في قلوبهم قبل عقولهم من الصعب نسيانه.
العم عبد الرزاق الأسود من مواليد مدينة “1932”رغم عمره ال89، إلا أن أجمل سني عمره التي قضاها بأسواق حلب القديمة “المدينة” تأبى المغادرة حاضرة بكل تفاصيلها في كل حديث وكل حكاية.
كان سؤالنا له وحيداً لا ثاني له كيف كانت الحياة بأسواق حلب القديمة، أما جوابه فكان كفيل بأن يكون الرد على ألف سؤال وسؤال.
كلامه سبقه الحنين
بدأت العمل في الخمسينيات وعمري وقتها 14 عاما، كأجير في أحد محلات سوق العطارين بسوق خان فنصة ، كنا نحن “الآجارة” نأتي في الساعة السابعة صباحا، نفتح المحلات ننظف المكان ونستقبل الزبائن، أما صاحب المحل أو التاجر فلا يأتي قبل الساعة التاسعة صباحاً، كل يباشر عمله ويقضي مصالحه، ثم يجتمع التجار مع بعض عند “العصرية” في الخان يجلسون على كراسي القش، نجهز لهم أباريق الشاي والقهوة، يتبادلون الحديث عن أوضاع العمل وأحوال البلاد.
آلية البيع والشراء
عن البيع والشراء في أسواق حلب قال العم أسود إن البيع يتم عن طريق مباشر مع التاجر، أو من خلال “الكومسيونجي” الذي يتولى عملية الشراء للزبون إما من ماله الخاص يسدده الزبون لاحقاً وإما من مال الزبون وفي كل الأحوال الكومسيونجي له نسبة.
يوقع الطرفان البائع والشاري على كمبيالة أو سند، وبعض التجار كان اسمهم لوحده يعتبر سنداً وأذكر من بينهم المرحوم الحاج عطا الله سالم تاجر القماش، والمرحوم الحاج عبد القادر قوجة والحاج المرحوم أحمد فنصة”مال قبان” تاجر الجملة لمواد “الشاي، القهوة، الصابون، البهارات.
كاتب الدوبية
ذكر العم عبد الرزاق أن لكل تاجر محاسباً والمعروف آنذاك باسم ” كاتب دوبية” مسؤول عن دفاتر الحسابات يراجعها كل يومين أو ثلاثة، واللافت في الأمر أنه لايستخدم الآلة الحاسبة بل يعتمد على الحساب الذهني والورقة والقلم،أيضاً هناك نصف كاتب وهو من “الصناعية”، إضافة لأشخاص مهمتها جمع المال للتاجر من العملاء.
البضائع ونقلها
حسب ماذكر العم أسود أن البضائع كانت تنقل عن طريق العربات التي تجرها البغال أو الدواب، ثم بالآلية ذات الثلاث عجلات “الطرطيرة”،السيارات كانت قليلة ومالكها من التجار في الغالب ومن أشهر الأنواع “فولكس فاجن، دوزوتو”.
وفي الستينيات دخلت الأغطية العراقية الصنع “الحرامات “وكان ثمنها آنذاك “50”ليرة وتسمى “مال فتاح باشا”، بعدها الأغطية الرومانية والنوعان كان لهما شكل المربعات “الكاروه”.
الألبسة الجاهزة غير موجودة
قال العم عبد الرزاق إن الاعتماد في زمانه على الخياطين لتأمين الثياب لأن الألبسة الجاهزة لم تكن موجودة، فقط كان هناك خياطان للباس الرجالي الجاهز هما ” عبد السلام رزق فريج، عبد الوهاب بدور وأولاد زلط” أيضاً كانت الطرابيش تباع جاهزة.
أحداث في الذاكرة
من الأحداث والوقائع التي ذكرها العم عبد الرزاق في عام 1963حادثة انفجار مادة البارود أمام قهوة المحمص عندما كان أحد الأشخاص ينقله على ظهر الحمار، وبلمح البصر لم يبق أحد في القهوة.
وفي حادث آخر مشابه انفجر البارود بأحد المحلات توفي أحد أبناء صاحب المحل وتشوه الآخر.
الحراسة الليلية
تغلق أغلب أبواب السوق بعد المغرب، ويعين حارس خاص للسوق وخاصة لسوق الصياغ حسبما قال الحاج عبد الرزاق.
قصارى القول
من أسواق الزرب، السقطية، العطارين، العبي، الشام، اسطنبول، النسوان، الجوخ، الحبال، الجمرك، الحرير، الدهشة، الصابون وسوق الحراج… “ومن الخانات حلقت بنا الذاكرة الحية في سماء الوجود، ذكريات نقشت على جدار القلب، كي تبقى في الذاكرة،
وكلها أمل أن يعود الحال أفضل مما كان بهمة من يريد لها البقاء.
رقم العدد 16302