بقلم الشيخ الدكتور ربيع حسن كوكة
القول من طيبِ الطويةِ طعمُهُ
فاحرص بأن تبدي مذاقاً يعذُبُ
فالقولُ من عمقِ النفوسِ ظهورهُ
فاحذر بأن تبدي كلاماً يحجبُ
فبكِلْمَةٍ ترقى المعاليَ في الدُّنا
وكذا بآخرةٍ كلامكَ يُحسَب
ُ
الكلمة الطيبة تبني عروش المحبة وجسور الوداد مع الآخرين، الكلمة الطيبة تُصلحُ الفاسد وتقوي الصالح وتُربي النفوس في المجتمع.
ومنذ أن وُجد النُّطقُ في الكون كان مؤشراً لكل من يسمعه على مقام الناطق وصورته أمام الآخر.
لذلك فقد رغّبَ ربّنا تبارك وتعالى بالقول الطيب والكلمة ذات الوقع الجيد على الأسماع من ذلك قوله سبحانه: (وقولوا للناس حُسناً) /سورة البقرة: 83/
فالكلام من الأعمال المكتوبة في سجلات حياتنا، والتي ستُعرَضُ في ميزان أعمالنا، الخير مأجور، والشرُّ موزور.
ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ العبد ليتكلّم بالكلمة -مِنْ رضوان الله- لا يُلْقِي لها بالاً، يرفعه الله بها في الجنة, وإن العبد ليتكلم بالكلمة -من سَخَط الله- لا يُلْقِي لها بالاً، يهوي بها في جهنم) رواه البخاري ومسلم.
وقال صلى الله عليه وسلم: (والكلمة الطيبة صدقة) رواه البخاري.
وحسبنا تأييداً وتدليلاً على أهمية الكلمة وأثرها في الناس المعجزة الخالدة “القرآن الكريم” كلام ربنا تبارك وتعالى الذي أنزله على سيدنا رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم فأصلح به أمة متناحرة كان يغزوا بعضها بعضاً ويسرقُ ويسبي ويقتُل بعضها بعضاً. فجاء النبي صلى الله عليه وسلم بالكلم الطيب والذكر الحكيم فتغير حال تلك الأمة رأساً على عقب فكانت (خير أمةٍ أُخرِجت للناس).
وقد ورد الكثير من الأخبار الدالة على الاعتناء بوقع الكلمة من ذلك ما ورد عن سيدينا الحسن و الحسين “رضي الله عنهما” لما رأيا رجلاً كبيراً يتوضأ خطأً قالوا له : نريدك أن تحكم بيننا مَن فينا الذي لا يُحسن الوضوء، و لما توضّؤوا أمامه ضحك وقال : أنا الذي لا أحسن الوضوء ..
وكذلك ما ورد عن سيدنا الخليفة عمر بن الخطاب “رضي الله عنه” لما رأى مجموعة من الناس موقدين النار من بعيد اقترب منهم و نادى : ”يا أهل الضوء” و لم يقل “يا أهل النار” خشية من أن تجرحهم الكلمة ..
وورد أن زبيدةَ زوجة أمير المؤمنين هارون الرشيد لامت زوجها على حُبِّه ابنه المأمونَ دون ولده الأمين؛ فقال لها: الآن أريك عذري، فدعا ولدها الأمين -وكانت عند الرشيد عدد من أعواد الأراك “المساويك”- فقال له: يا محمد؛ ما هذه؟ فقال: مساويك.
ودعا المأمون، وقال له: ما هذه يا عبد الله؟ فقال: ضد محاسنك يا أمير المؤمنين.
فقالت زبيدة: الآن بان لي عُذرك!
أي تبين لها سبب تفضيل الرشيد للمأمون على الأمين، وأن سبب ذلك ما كان عليه المأمون من ذوق في كلامه، على حين أن الأمين لم يكن كذلك.
وجاء في كتاب فتح المغيث للسخاوي -رحمه الله- 1/371 ما نصه: “روينا عن المزني قال: سمعني الشافعي يوماً وأنا أقول: فلان كذّاب.
فقال: يا أبا إبراهيم! اُكْسُ ألفاظَك أَحْسَنَها، لا تقل: فلان كذّاب، ولكن قُلْ: حديثه ليس بشيء”.
وكذلك ما ورد عن الشيخ الغزالي عندما جاء له شخص و قال: ما حكم تارك الصلاة ؟
قال: حُكمه أن نأخذه معنا إلى المسجد ..
ففي هذه المواقف يُعلمنا سلفنا الصالح كيف يكون الذوق الرفيع في الكلمة ليكون لها أثر طيب على سامعها.
ما أحوجنا ونحن نمرّ بما نمرّ به من بلاء وغلاء وتكالب أعداء أن نستخدم الكلمة الطيبة في سائر حواراتنا، علنا نُخفف عن بعضنا ونرقى بمجتمعنا. إذ الكلمة الراقية أكبر مؤشر على رُقي المجتمع.
فيا ربنا أكرمنا باتباع ذلك الذوق الرفيع، واجعل لكلامنا آثار الخير على واقعنا يا أكرم الأكرمين.
رقم العدد ١٦٣١٦