ماذا تعرفون عن قصائد نزار قباني الممنوعة ؟

الجماهير – حسين قاطرجي

قد لا يستطيع الشعر أن يثقب المعدن، ولكن التاريخ علّمنا أنّ معدن مُكمّمي الأفواه هشٌّ جداً، إذ لا تلبث أن تخرج الأعمال الأدبية الممنوع تداولها إلى العامة، وتتناقلها الأيدي سرّاً ومشافهةً حتى تُحدث التغيير الكبير الذي كُتبت لأجله.
نزار قباني قائدٌ شعريٌ من الطراز الأول، مارس التحريض الشعري بكل أشكاله، وقد سار وراءه كل المعذبين الذين صودرت أصواتهم وأفكارهم، وتم تهميشهم سعياً لوأد إنتاجهم الأدبي.
لقد حرّر نزار قباني ثقافة الشعر المعتقلة، وأطعم الناس من حنطة الشعر خبزاً، وأنزله إلى الشارع وحوّله من مادةٍ أدبية إلى موادٍ متفجّرة يغلي الشارع بها ومعها. وأزال الكلفة بين القصيدة والناس؛ فخلق الشاعر لنفسه فيلق أعداء سلّوا عليه سيوف النقد وطعنوا بها صميم القصائد.
يفنّد الباحث نضال نصر الله في كتابه (نزار قباني، وقصائد كانت ممنوعة في السياسة والدين والجنس) النزاريّات التي مُنعت لأسبابٍ شتى، حتى صار لسان الشاعر وكأنّه برسم الأمانة وقصائده بضائع لا تقبل الجمركة. فقد أثارت قصيدته (خبزٌ وحشيشٌ وقمر) الجدل واسعاً في البرلمان السوري بُعيد نشرها في مجلة الآداب عام 1954، حيث تحمل القصيدة بلغتها الجريئة مقارنةً خفيّةً بين البلاد العربية وطقوسها وتقاليدها البالية، والعالم الغربي ببساطته وسهولة تجدّده (بحسب تعبير الشاعر). فطار بها صواب دمشق بمشايخها ورجال الدين فيها فقاوموها بكل الوسائل وسلطوا على الشاعر الشاتمين واتهموا القصيدة بأنها تشكل خطراً على الدين والأخلاق والدولة، فحاولوا منعها، كما فعلوا بأعمال جدّه من قبله (أبي خليل القباني).
وقد شهدت اجتماعات الحكومة السورية وقتها جدلاً كبيراً حول مخاطر هذه القصيدة الآبقة؛ فرأت الحكومة أن تحاسب الشاعر سياسيّاً بصفته سفيراً ولا يُحاسب شعرياً، حتى عدّت القصيدة حزباً محظوراً ومنشوراً ممنوعاً. لكنّ الجماهير تبنّت القصيدة وتناقلتها بالحبر السرّي ووزعها أفراد الأحزاب المتخاصمة. ويُذكر أنّ نزار قباني قال عند التهجّم عليه بسبب القصيدة: “إنّ العمائم نفسها التي طالبت بشنق أبي خليل طالبت بشنقي…والذقون المحشوّة بغبار التاريخ التي طلبت رأسه طلبت رأسي، قصيدة خبزٌ وحشيشٌ وقمر كانت أول مواجهة بالسلاح الأبيض بيني وبين الخرافة… بيني وبين التاريخيين”
يعرّج الباحث نضال نصر الله في كتابه على نزاريّةٍ أخرى لا تقلّ شأناً عن سابقتها هي قصيدة (هوامش على دفتر النكسة) والتي كتبها الشاعر بعد نكبة حزيران، وهي القصيدة التي مُنعت سياسيا وإعلاميّاً، ولأجلها فُرضَ حِصارٌ على منشورات نزار قباني، وقد قال الشاعر عنها: “لم أعد أتذكر الآن تفاصيل الولادة العسيرة لقصيدة هوامش على دفتر النكسة، كل ما أذكره أن أوراقي وشراشف سريري كانت غارقة بالدم، وأنّ زجاجات المصل التي كانت مثبتة فوق ذراعي لم تكن تكفي لتعويض الدم المهدور. نُشرت القصيدة أول ما نُشرت في مجلة الآداب اللبنانية، ولم أكن متأكداً حين دفعتُ القصيدة إلى الصديق سهيل إدريس أنّه سينشرها، فخطّ سهيل القومي خطٌّ متفائل، وأحلامه العربية مُشربة دائماً باللون الوردي، لكن؛ حين جاء سهيل إدريس إلى مكتبي ذات صباح، وقرأتُ له القصيدة، صرخ كطائرٍ ينزف: انشرها… انشرها”.
لقد انفجرت كلمات نزار قباني فوق كل جرحٍ عربي لتعقّمه من بقايا تلك الأيام المريرة وتطهره من جراثيمها، وتسابق الناس على تطهير جروحهم من أمراض تلك النكسة المؤلمة، وفي هذه اللحظات الممزوجة بين الحزن والفرح، بين الألم والشفاء صدقت توقعات نزار.. إذ صُودرت المجلة، وأُحرِقت أعدادها في معظم المدن العربية.
ثم يمرّ الكاتب على قصيدة (المهرولون) الشهيرة، والتي أثارت حرباً مُعلنة بين قياداتٍ فلسطينيةٍ والروائي الكبير نجيب محفوظ من طرف، والشاعر نزار قباني من طرفٍ آخر. لقد أدمى الشاعر في قصيدته تلك أصابع الموقعين على معاهدات الصلح مع العدو، فكانت صوت من لا صوت لهم، وعنوان الرفض على ولاء الاستسلام، معرّيةً نفسها من جميع مظاهر التصنّع والخداع لتُظهر أسماء المهرولين في جميع أنحاء جسدها.
في الكتاب قصائد أخرى يصنّفها النقّاد بأنّها خارجة عن القانون لإثارتها مفاتن الجنس والجسد، أو لأسبابٍ دينية، منها: قصيدة (بلقيس) التي لم يستطع منعها أحد، و(قصائد مغضوبٌ عليها)، وقصيدة (قالت لي السمراء) التي هاجمها الشيخ الأديب علي طنطاوي في سلسلة مقالاتٍ له، و(طفولة نهد) التي لم يستطع الزيّات نشرها إلا بعد تحويرها إلى (طفولة نهر)، وقصائد أخرى مثل: فتافيت الغرام، مات الكلام، و يا بعض أيامي وغيرها كثير.
يرى نزار قباني أن لا قيمة لفنٍّ لا يُحدث ارتجاجاً في قشرة الكرة الأرضية، ولا قيمة لقصيدة لا تُشعل الحرائق في الوجدان العام، ولا قيمة لشعرٍ يحترف التبخّر والخوف والتستّر، يكون الشعر كشفاً وإضاءةً وتعريةً للزيف والزائفين أو لا يكون.
صدر الكتاب عن دائر الأوائل/دمشق عام 2003م، ويقع في 240 صفحة من القطع الكبير، وهو رسالة عشقٍ حقيقية للشاعر الكبير وفيه إضاءة محطاتٍ مهمة وغامضة في حياة هذا الرجل بالنسبة للنقّاد والباحثين ومحبي الشعر في كل مكان.
رقم العدد 16239

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار