الجماهير / بقلم حسين قاطرجي
يؤسس الروائي “ممدوح عزام” خطاباً فنّياً خاصاً به، مستقلاً عن المشهد السّردي السوري؛ حيث يستعيض في تقنيته الروائية عن الحبكة التقليدية ليحلّ محلها أحداثاً صغيرة تشكّل في مجموعها لبنات المعمار الروائي العام..
يستفتح الكاتب “ممدوح عزّام” روايته الرائعة “لا تخبر الحصان” بالحدث المركزي وهو عودة الدَّركي المتقاعد “سالم النجار” إلى بيته في دير القرن (ريف السويداء/جنوب سورية) حيث استُقبل استقبالاً باهتاً من زوجته وأبنائه، وهنا يتغيّى الكاتب تقصّي تفاصيل الحياة اليومية للأسرة، وأحلام وخيبات الناس العاديين والمهمّشين من خلال علاقة الزوجة والأبناء بأبيهم الذي فاء إلى داره بعد طول ترحال حيث يزاوج الكاتب الوصف بالسرد في رسم الأمكنة والشخصيات والأشياء.
هذا الاستقبال الفاتر لم يعنِ للدّركي “سالم النجار” شيئاً إذ كان يكفيه أنّ حصانه معه، وهو رفيق دربه، والشاهد الوحيد على بطولاته ومغامراته في سلك الدّرك حيث يَعسُّ الليل مُطارِداً أهل الريبة من اللصوص والمهرّبين وقطاع الطرق.
في الرواية لم يكن “سالم النجار” كالفارس “عنترة” الذي طلب من حبيبته أن تسأل الخيل عن صولاته وجولاته في معلقته ((هلّا سألت الخيل يا ابنة مالكٍ))؛ لأنّ بطل هذه الرواية كان يترك حصانه وحيداً في الباكة ويحظر على أهل بيته الدخول عليه؛ حبّاً به وتحصيناً لنفسه النبيلة من أن تؤذيها سياط ألسنة أبنائه وزوجته المسمومة، بل أكثر من ذلك؛ كان “سالم النجار” يسأل ابنه “كامل” -وهو أقرب أبنائه إليه- ألا يخبر الحصان “صُبح” بما تكنّه قلوب أفراد الأسرة تجاهه من كرهٍ وسواد.
تنهض الرواية بألسنة رواةٍ كثر، هم في الغالب أبناء “سالم النجار”: “فاضل” الذي لا يعجبه شيء، حتى طبخ أمّه وملابسه التي لا يلبث أن يشتريها ليبدلها مرتين أو ثلاثاً، لكنّه معجبٌ “بجمال عبد الناصر” فيقلده في لباسه ومشيته. ثم حظي بوظيفةٍ حكومية في اتحاد مربي الأغنام وهناك تعرّف إلى “شادية” التي تتهلّل أساريره وهو يتفرّج على مفاتنها مع كل صعودٍ ونزولٍ لها على الدرج، وهي تعلم منه ذاك التلصّص الخجول فتتلاعب به وبمشاعره وتضحك منه وعليه.
الابن الثاني “نوفل” الشجاع الذي لا يخاف الكواسر والوحوش والرصد والسعلاة، والذي يكتم عواطفه ورغباته، والذي يحبّ “يمنى” بنت الطحان لكنّ أمه تعدّه للزواج من ابنة خاله، وأبوه يمكن أن يشنقه إن فعل ذلك لكرهٍ دفينٍ يكتمه لذاك الخال منذ أن تزوج بأخته “سليمة الحطاب”، و”نوفل” بيت أسرار أمه التي تخبره نصف أسرارها، والذي لأجل ذلك أسمته (البير). ومن خلال صديقيه “رمزي الهدهد وكفاح” ينخرط “نوفل” في عضوية الحزب الشيوعي أثناء دراسته في السويداء المدينة.
الابن الثالث “كامل” ذو الاثنا عشر عاماً ورغم يفاعته لكنّه خوّافٌ شديد الجُبن ويبول على نفسه في الليل، ومع ذلك فهو الأقرب إلى قلب أبيه لأنّه الوحيد في هذه الأسرة الذي يحبّ الحصان وينافح عنه. و “واصل” المستهتر الملقّب بالمنغولي والذي يسفّ التراب، وينام على صوت الراديو ويتنسّم رائحة الغسيل اعجاباً بها. ثم آخر العنقود “كاملة” تلك الطفلة الرقيقة التي تراقب كل شيءٍ بعينٍ نسرٍ وفمٍ كتوم. وكل الأبناء عققة؛ لا يضمرون لأبيهم سوى الكره والخوف وهم من فرط عقوقهم لا يذكرونه لنا إلا باسمه الأول “سالم” بدلاً من مناداته باسمه الصريح؛ قياساً على العلاقة التي تربطهم به وهي الأبوّة.
ينتظر الأب “سالم النجار” رسالةً من حلب، ويتّضح للأم والأبناء أنّ غياب أبيهم الطويل لا يبرّره العمل، بل تأكّدوا من هواجسهم نحوه بزواجه من أخرى، لكنّه فاجأهم بأكثر من ذلك وهو إنجابه من الزوجة الثانية طفلاً أسماه “نائل”. والواقع أن “سالم النجار” لم يكتم خبر زواجه الثاني ترهّباً من زوجته، وإنما خوفاً من ردة فعل مجتمعه الذي يرفض الزواج من امرأةٍ تعتنق مذهباً آخر، عدا عن أنّ مذهبه يرفض تعدّد الزوجات أصلاً.
تتمحور الرواية حول الحصان وعلاقة الأسرة به وهو الدخيل عليهم الذي يقاسمهم معيشتهم رغم فقر الحال، والذي لايراه صاحبه “سالم النجار” إلا فرداً من أفراد أسرته، ولذلك رفض فكرة أخيه بربط الحصان أمام عربةٍ يبيع عليها الغِلال. ويوقفنا الكاتب على محاولات الزوجة والأبناء للتخلّص من هذا الحصان ومدى تكدّرهم عند سماع طرقات حوافره وهو عائدٌ من الحشيش.
يمتلك الكاتب لغةً طيّعة، وقلماً يتجاوب معه بين سريعة إيقاع السرد وإبطائه، ورصيداً مزدوجاً بين النّصاعة اللغوية والمعرفة بمصطلحات بيئة الجنوب السوري، ويحصل أن ينتقل الكاتب بالقارئ من صفحات الكتاب إلى واقعٍ من حسٍّ وملموس فيتفاعل معه ويغلب عليه الوجد والتأثّر، ويمكنني إيضاح ذلك باقتباسين جميلين، الأول عن رقص “سالم” مع الحصان “صبح”، و الثاني وصف الكاتب لليل ريف السويداء.
اقتباس 1 “أَخرَجَ الحصان، ومشى به إلى الرصيف الحجري في الوسط، وقال له: 《 تحمّمْ! انبسط!》. وبدا كأنّ الحصان فهم اللحظة.
فأخذ يهزّ رأسه في البداية، ثم بدأ ينفض الماء عن عرفه وشعر رقبته، مبلِّلاً سالم في وجهه وشعره وثيابه. صهل وحمحم، فيما كانت حوافره تقرع الحجارة في ايقاعٍ شبه راقص. أخذ سالم يقهقه، وقال له وهو يربّت على صدره:《يا ولد! ياولد!》. وفي الدقائق التالية، كان أفراد الأسرة كلها يطلّون من النوافذ، وهم يتفرّجون على النجّار والحصان وهما يدوران تحت المطر، في خطواتٍ متوازية منسّقة، مبلّلين حتى العظام. وبينما راح سالم يغنّي، ويدبك، بدأ الحصان يختلس النظر إلى قدمَي صاحبه، ويحاول أن يضبط خطاه وحوافره بحسب النغمات التي يسمعها.”
اقتباس 2 “لا أخاف من الليل، ولكني أكره هذا التغيّر التدريجي للون الدنيا من البياض المطمئن، المشغول برؤية البشر والأشياء، إلى ذلك الفراغ العاري الأسود، العابس، الممتلئ بالتكهّنات، ونزاعات الحشرات ونباح الكلاب، وعواء ابن آوى، وصرير الحبال في سارية الغسيل، وخشخشة الريح في شجرة الصنوبر التي تتوسّط الدار، ومواء القطط، أو سعارها الممطوط المشحون برغبةٍ قاتلةٍ في الموت.”
صدرت الطبعة الأولى عام 2019 بالتعاون بين دار سرد، ودار ممدوح عدوان، وتقع الرواية في 253 صفحة من القطع المتوسط، وأشيد جداً بتصميم الغلاف العبقري ل تمّام عزّام الذي اختزل محوري الرواية في ظرف رسالةٍ ممزّق كإشارةٍ لانكشاف السرّ، وعليه طابع الحصان بقيمة 10 قروش بعد أن كان بمئة قرش، وهي التفاتة من المصمّم على زهد الأسرة بالحصان ودنوّ قيمته في خاطرهم.
رقم العدد ١٦٣٧٠