بقلم: حسين قاطرجي
لم يقتصر الصراع العربي – الصهيوني على ساحات القتال، بل انتقل إلى صفحات الأدب وظهر ما يمكن تسميته ب “الأدب المقاوم” وإذا كان الشعر العربي كريماً مع “القضية الفلسطينية” حيث يمكننا تعداد أكثر من أربعين شاعراً عربياً وفلسطينياً جعل فلسطين عامةً، ومدينة القد^س خاصةً محوراً لأشعاره وبوصلةً تُوَجّهُ نتاجه الأدبي المقا^وم؛ فإنّنا نقف عند أسماءَ معدودةٍ لرواةٍ جعلوا من القد^س ثيمةً لأعمالهم الأدبية الروائيّة.
إن القد^س في الأدب العربي يحتاج إلى دراساتٍ مستفيضة، فالقارئ المتبصّر يجد أن الشعراء العرب ومنذ زمنٍ بعيد (أيام فتح القد^س وتحريرها من الصليبيين على سبيل المثال) لم يأتوا على ذكر المدينة وقيمتها بقدر ما مجّدوا القائد الفاتح وحقّروا أعداءه، وأنّ القد^س عندهم مكان صراع أكثر من كونها مدينة فاضلة ذاتُ بُعدٍ ديني وتاريخي، على عكس الشعراء المتأخرين الذين نظروا إلى مدينتهم بعينيّ الإبن البار المتحسّر على نكباتها المتوالية نادباً مساجدها، كنائسها، جبالها، ليمونها وزيتونها.
في العودة إلى القدس في عيون الروائيين، لا أذكر عملاً تناول “القدس المدينة” تناولاً جادّاً إلا في عملين يتيمين: رواية (سوناتا أشباح القدس) للكاتب الجزائري واسيني الأعرج والتي تحكي قصة (مي) الفتاة الصغيرة التي تغادر مدينتها عقب إعلان قيام دولة الكيان الصهيوني، ورواية (مصابيح أورشاليم، رواية عن إدوارد سعيد) للعراقي علي بدر. وما تبقى فهي رواياتٍ تحكي يوميات الحرب أكثر ممّا تحكي يوميات المدينة والنّاس.(1)
رواية “دماء على أبواب القدس” رواية مقدسيّة تجمع بين سياقين متفاوتين، سياقُ يومياتِ الناس وآمالهم وهو سياقٌ رومانسيٌ عاطفي، وآخرٌ مقاومٌ يحكي عذاباتهم وتضحياتهم لمقا^ومة احتلالٍ جلفٍ لايعرف الرحمة، يندرج تحتها مخططاتُ المقا^ومين والكر والفر والتلصّص والخديعة وسائر فنون حرب العصا^بات.
تتناول الرواية حياة أسرة الشيخ “ياسين” إمام المسجد الأقصى، وهو المناضل الشهير الذي يأتمر الناس برأيه ويأخذون بقوله وينهلون من حكمته وخبرته، وهو أحد قيادات المقاومة الفلسطينية في القدس، وولديه “مجاهد” الشاب الفدائي المقدام، و”عماد” المتفلّت الذي باع قضيّة أهله ووطنه ثم قدّم ضميره وذمته هديةً فوق البيع. هذا الشاب يتعلق ب”سوزان” وهي إبنة أحد الأغنياء الموسرين الذي جمع ثروته من تجارةٍ مشبوهة و تجسّسه لصالح الجيش الصهيو^ني. وما كان تعلق عماد بسوزان نتيجة حبٍّ يلتهم قلبه بقدر ماهو طمعٌ بثروة أبيها، وما يمكن أن يجنيه مع زوجته المأمولة عُقيب ميراثٍ قريبٍ يتمناه. ويحصل أن يُعتقل الشاب “عماد” في سجون الاحتلال وهناك تتبدّى له الحقائق وتُنار بصيرته وتزول عموشة عينيه عن طبيعة الصراع وما أفرزه من طابورٍ خامس يتغلل بين المقدسييّن لينال من عزيمتهم ويقطع شأفتهم ويستبيح بيضتهم.
تنتمي الرواية إلى “الأدب الإسلامي”، وهو أدبٌ بدأ ينزوي رويداً (2)، وأشهر كتّابه في هذا العقد هما (أيمن العتوم، وأحمد خيري العمري). وهذا الأدب الرفيع يمتاز بوضوح رسالته وهدفه، وهو فنٌ أدبيٌ أصيل أخشى أنّ دور النشر بدأت تتغافل عنه لقلة كتّابه، ذلك أنّ على الكاتب أن يحمل شعوراً عميقاً بالمسؤولية تجاه النص واللغة والفكرة. وعموماً يحتاج هذا اللون الأدبي إلى دراساتٍ وبحوثٍ شتّى للوقوف على أسباب تنحيه عن طريق عجلة النشر العربي الذي يشهد انتعاشاً نسبيّاً في الوقت الحاضر.
لا أدري إن سبق للكاتب الدكتور (عبد السلام الراغب) أن زار القدس، لكنّ أجواء الرواية ترسم ملامح الصر^اع بشكلٍ دقيق وكأنّ الكاتب كان طرفاً مقا^وماً يشهد بعيني رأسه دقائق الأعمال الجها^دية وتجهيز كوادرها، وقد فازت هذه الرواية بجائزة الأدب الإسلامي للرواية عام 1992(3). وقد صدرت طبعتها الأولى عن دار التراث/ حلب عام 2003. وتقع في 288 صفحة من القطع المتوسط. ويمكن اعتبارها رواية متفرّدة لندرة هذا النوع من الأعمال الروائية الهادفة.
_______________________________
1- هذا بحدّ علمي، وربما كان في المكتبة العربية أعمالاً أخرى لم تصلني، إذ لايمكن لأحد أن يدّعي إلمامه بكل النِّتاج الأدبي العربي.
2- على عكس ماكان عليه الحال في خمسينيّات القرن الماضي.
3- لا أستطيع الجزم بصحة هذه المعلومة لقلة المصادر.