محمّد جمعة حمّادة
تشربُ قهوتكَ،همومك، ساعات العَلقم في مكاتب البيروقراطيّة، ومع أشخاص نمطيّين يردّدونَ ” فخار يكسّر بعضه”،دون أن يحدث أيّ ضجيج.ولايوقظ نملة،عالمٌ بكامله باستثناء، هذا العالم النامي، المتخلّف، الذي أطلقوا عليه العالم الثالث !
تنهضُ وتسيرُ هكذا.. تَنْداحُ فوقَ أديمَ كلِّ هذه اللحظات الآتية من فجاج اللاشيء، لحظات يضطلعها الوقت هكذا، دونَ أن يؤجّل فيها ليلٌ، فجرٌ، أو طير يطيرُ في السَّماء، تحت خيوط المطر.
ذات مرّة، تحدَّث في نفسهِ: سيكون لي شأن! سيكون لي مستقبل! ولكن أيّ مستقبل وكلُّ الطرق مسدودة، سيكون لنا تاريخ! حقّاً كان لنا تاريخ. احترقت أرواحنا من انتظار شيء لم يأتِ، وربَّما لن يأتي. كان لنا عيون مفتوحة على الذكريات، كأنَّنا خسارة فادحةٌ في طقس رديء، بقايا رماد. من ذا يُبالي أن يمسح زبد الليل بكمّ النهار،أو يُقلَّم أظافر الانقباض العاصف؟ يترجّل من التاريخ، والمتماثلون من الفرح يقطنون الذاكرة. تبكي مخدوعاً في بيتكَ، وفي خارجه، مهزوماً، مستوراً في ظلمتكَ، وبداخلكَ مشحونٌ، خطيئتكَ أمرٌ لا مفرَّ منهُ، فضاؤكَ يطوي أشرعتهُ، القمر يشيبكَ، والترابُ وحدهُ يفهمَكَ، أزمنةٌ بلا لون، اتركْ وصيَّتكَ حيث تشاء، فما بينكَ والنجوم سوى ومضة فكر، وها أنتَ مجرّد شخص يبحثُ عن شيء تقتنع بهِ، فلا الشمس تنزفُ نورها في عينيك، ولا الحجرُ يفرغُ إشراقهُ، فقط الرملُ يُهيلُ سطوعهُ في مسارب الرِّيح، في المراثي التي تنتظركَ أسفل النور. هذه هي أبديّتكَ، لسانٌ مقطوع في رسالة الصحراء الشفويّة، هذا هو تاريخك، يرميك وينتحر، وعندما ينام ليل الله ويصحو السَّحابُ، سيكون لكَ عهدٌ مع شظايا القذائف، أن تنزلَ منجم النور، وتتركَ الغَمْر يسيلُ في مشهدِ الخراب، وإذا ثمَّةَ بردّ، فالحربُ معطفكَ، وعلى قبركَ ستتفتح الزهرة .
نمِ الآن، بلدكَ في انتظار المطر. احملْ ذاكرتكَ إلى العراء، واترك الدَّم الغائر في الأعماق يسيلُ في مشهد الظلام، فلا هذا ولا ذاكَ بشاهد، انطفئ لكي تشتعلْ غداً في حقل الكلمات، ماوراء المنظر حيث السباحة ضدَّ التيَّار، حيث ما من فاصلة بين الأفق والمسافة .
هناك، فقط هناك، افتحْ تاريخكَ ودع الطيور الآتية مِنْ بعيدٍ تبني أعشاشها فيه، فالأفق هنا يريدكَ أن تشهرَ على الموتى، وأن يتطاير مكرُكَ بين القذيفة والجناح. أن تصمتَ وهم يتكلّمون، أن تصغي وأنتَ تتكلَّم..، ربَّما تعرف مَنْ تحتك، لكنَّكَ لا تعرفُ مَنْ فوقكَ! ماذا أعطوكَ حينَ جئتَ إلى العالم؟ لا شيء سوى غرائز؛ عيون، وأقدام تقطع بها الأرض .
كمْ مِنْ فجرٍ بارد تركوكَ فيه مُلبّداً بالضباب، فيما السَّماء كانت تتشظّى فوقهم نجوماً. لا تبحث عن الحقيقة، خُذْها مِنْ فمِ الحصان، لا تُدوّن حياتكَ على الورق، أكَتَبْتَها؟ لا تتوهّج إلّا في ظلمتكَ، لا تلتفتْ لظلٍ يريدُ أن يحميكَ، فكلُّ شيءٍ دبَّ فيه نومٌ فاسدٌ، الملعبُ، الطريقُ، وخيوط الضّوء التي تظهر من بين الأبنية المتصدّعة .
ماذا يحملُ الغَدُ سوى ندبة بلا أهداف، سوى رحلة بلا ناس، سوى هذا الشيء الذي غالباً ما يهربُ، ويتركُ علامات لا ملجأ في ظلّها سوى كوَّة يُطلُّ منها، ماضياً في جدائل لغويّة جديدة.
ماذا يحمل الغدُ سوى عشب، ينتهي دائماً قشَّاً، سوى غبار أصفر فوق أفكار رطبة، وجسد ينمو في أنوار أخرى، كلُّ شيء يصرّكَ على البكاء، الشارع، البيت، الناس، كلُّ شيء، كلُّ شيء إلّا هذا الغائر في ذكرياتك، تراهُ يتحرَّكُ أمامكَ وأنْتَ نائمٌ .
سنرفعُ النار لإبقاء المطر على وتيرةٍ، مِنْ أجلِ أن يتجوَّل جسمكَ طوال الأفْق المختلط بالفوضى فوق الحصى .
حنانيكَ! امضِ لا مكانَ لكَ في هذا الحاضر الوليد.. فلا شيء ثمَّة من قبلُ ومن بعد الآن. عشْ شاعراً أو مُتْ الطفولة عُمركَ .
لا يصحُّ أن تَصفَ شخصاً بأنَّهُ مثقّف إلّا إذا كان لديه مشروع فكريّ . “ريجيس دوبريه” (1940ـــــــ …).
ولا يصحُّ أن تصفَ شاعراً بأنَّهُ شاعرٌ، إلّا إذا كانت لديه نظرة شاملة للإنسان والحياة والعالم.
مسكونٌ بالقلق والتساؤل والبحث، نزعة الاستشراق التي تنهض على مفهومات الرؤيا والحدْسِ والعين الثالثة والقلب الثاني، بالرؤيا والحَدْس يتمّ استشراف المستقبل .
بالعين الثالثة تتمُّ رؤية ما لا يُرى بالقلب الثاني، تتمُّ معرفة ما يمكن أن يُعرف بالطرق العقلانيّة أو بالمنطق .
ـــــ ما الموت ؟
ـــــ ليس أكثر من جرح، بليغ أحياناً، في جَسَدِ الحياة .
ـــــ ما الحياة إذاً ؟
ـــــ ليست أكثر من نشوة عابرة في جَسَدِ المادّة .
إنَّهُ المسرح إيّاهُ، ومشهدهُ الفاجع، حشودٌ، عسكر بأسلحة، وعسكر بلا أسلحة، وعسكر بين بين، أطفال في صور دبّابات، نساءٌ في صور بنادق، شيوخٌ في صور هياكل وقبور، جسمُ الحاضر يستلقي على جسم الماضي، حشدُ أقدام ورؤوس، أكياس وصناديق، مفاتيح وأقفال، عيون وآذان وشفاه، أكتاف وسواعد.
أن تقول الحقيقة أمرٌ كان دائماً منذ سقراط (399 ق.م ـــــــ469 م) مخاطرة بين أشكالها الموت، الموت اجتماعيّاً،على الأقل.
ليس الإنسان حُرَّاً، ألّا يكون حُرَّاً، يقول “جان بول سارتر” (1905ـــــــ1980). الإيديولوجيّ،لا يطرح دائماً إلّا الأسئلة التي يعرف مسبقاً أجوبتها، الجسدُ هو الكتاب الأكثر غموضاً، والذي لا ينتهي الحيُّ من قراءته، طبيعيّ وضروريّ أن يعود الإنسان إلى ماضيه،غير أنَّ هذه “العودة ” لا تُجدي إلّا بشرط أساسيّ واحدٍ هو أن يسير” العائد” على طريق لا يقودهُ إلّا إلى المستقبل، وفي طريق يفتّحها في المقام الأوّل الخلاص مِنَ الدوغمائيّة، والخلاص من ثقافة ” الإحياء” و” النقل”.
السموات بألغازها؛ العقائدُ بخوف محاربيها، الأقبية بموتاها، القلاعُ بأسوارها، الأوطان بسجونها، وحكمة جلّاديها، الحبُّ بضعفه، الإنسان بجمال خطاياه وشجاعة أحلامه .
رتّب خوفكَ كما يليقُ بشجاعٍ مُشرفٍ على الذبح، احْلَمْ.. هل تحلمُ حقاً؟! الحياة في محنةٍ، والجمالُ يُنتظرُ، الجمالُ حزينُ؛ الأملُ مخادعٌ..نلتقي، ونتصافحُ بقليل من الأمل، وكثير من الغصَّات، ونحلم. هل من نافذة ؟ نَتضرَّعُ كأنّما لنحتمي بأهدابِ غيمة! هذه الأرضُ مثقلة بميراثها المخيف مِنَ الدَّم، والغصّات، كم صمدت، وإلى متى يمكنها أن تصمد ؟ في الحلم لا يخرج خاسراً إلّا الموت .
لكأنّه إذا تذكرَ حنَّ، وإذا رغبَ تألّم، وإّذا عطشَ صرخ..، وإذا نظر إلى الأشياء وقع في غرامها.
يذهب في الأحلام إلى آخر حدود المملكة، تروقُ له سكنى الرُّوح .. يكفيه ما يَعِدُ به الحلم .
كتب سعيد رجُّو شهادته بعنوان: “أبداً كنتُ أنا”. اللونُ خدّاعٌ، إنني لا أعرفُ كيمياءالألوان. إنَّنا لانستطيعُ أن نعزف على آلاتٍ كثيرة في نفس الوقت، لا تفاصيل أخرى للمشهد.. هل ترسم امرأة ؟ لا أعرف كيف أرسمُ امرأة غيري.. لكلِّ امرأته.. كاتبٌ تحرسهُ كلماته، وآخر يحرس كلماته، لكن ما بال الموت لا يأتي ؟!
الأصوليّة هي حركة قطيعة، أو احتجاج على اعترافٍ لم يُنجز. “تشارلز تايلور” (1931ـــــ …) .
الدين تعبيرٌ عن الحزن الإنسانيّ العميق، اعتراضٌ على هذا الحزن . “كارل ماركس” (1818ــــــ1883) .
قالت الأسطورة: إنَّ الموت والعبقريّة عدوّان، على أحدهما أن ينتصر على الآخر.
وأضافت: غالباً ماتنتصر العبقريّة، لأنَّ الموت يصنعُ الصمت، بينما العبقريّة تصنع الصوت .
حقّاً، إنَّ الكون لانهائيّ.. كما أنَّ الوجود الحقيقيّ لايملك اليقينُ على وجوده.. وحيث لا يمكن أن نوجد، نكون قد اخترعنا وجودنا.. إنَّ الموت هو الذي نكتسبُ من خلاله في آخر المطاف وجودنا.. وما عدا ذلك : الحياة، الهويّة، الناس، الواقع، والمرايا لا تعْدو أن تكون لعبة لإثبات الجنون .
نكتب.. حتّى نقهر الموت.. ترانا نكتب.. وتصبح الكتابة فعل حياة .