بقلم: الشيخ الدكتور ربيع حسن كوكة
دائماً هناك ما يستقر في ذاكرة الإنسان مما قرأ أو سمع أو شاهد يتذكره عندما يمر به ما يشابهه في الواقع الذي يعيشه؛ وهذا ما أشارت إليه الآية القرآنية: {وذكّرهم بأيام الله إن في ذلك لآياتٍ لكل صبارٍ شكور} [إبراهيم:5] ونلحظ التحفيز النبوي لاستثمار الأيام المباركة في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ألا إن لله في أيام دهركم لنفحات ألا فتعرضوا لها ) رواه الطبراني.
وها هي العشر الأُوَل من ذي الحجة قد شارفت على القدوم وقد اعتدنا عليها عبر سنيّ حياتنا أنها أيام تحضير للذهاب لبيت الله الحرام؛ وفي صميم معتقداتنا أنها من أعظم الأزمنة التي يَحسُنُ فيها التقرّب إلى الله تعالى بأنواع الطاعات بنصّ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: ( ما من أيامٍ العملُ الصالحُ فيهن أحب إلى الله من هذه الأيام العشر….) رواه الترمذي.
ولعلها دعوة لضمائرنا لنجتهد في هذه الأيام بأنواع الإحسان لجميع المخلوقات لعلنا نرتقي لمرضات الله سبحانه.
روي أن عبد الله بن المبارك رحمه الله (ت 181هـ) وهو من أجلّ أهل زمانه علماً وزهداً وفضلاً كان يُكثر من الحج؛ وفي عامٍ من الأعوام خرج مع قافلة من أصحابه قاصداً الحج وبينما هو في طريقه دخل الكوفة وكان يصحب معه الزاد والدجاج الحي ليُذبح في رحلة الحج؛ فماتت دجاجة معهم فأمر بإلقائها في مزبلة، وسار أصحابه أمامه وسار هو وراءهم، فلما مَرَّ بالمزبلة إذا بامرأة قد خرجت من دار قريبة منها فأخذت تلك الدجاجة الميت؛ فتبعها فوجدها تجلس في مكان خرب وتُعد تلك الدجاجة الميتة لتأكلها هي وأولادها.فقال لها: أيتها المرأة ألم تعلمي أن الله تعالي حرم أكل الميتة؟ فقالت له: ابتعد عني يا هذا. فسأل عنها فعلم أن زوجها توفي وترك لها أطفالاً صغاراً ولا تملك ما تنفق عليهم، فما كان منه إلا أن أرسل المبلغ الذي أعده للحج إلى تلك المرأة لتنفقه على نفسها وعيالها، وعزف عن حجه التطوع.
وبعد أن انتهي موسم الحج جاءه الحجيج يهنئونه ويصفون له كيف التقوا به في الأماكن المقدسة، وقالوا إن الزحام منعنا أن نلتقي بك ولكننا شاهدناك في مكان كذا وكذا.ففاجأهم ابن المبارك بأن قال لهم متعجباً: ولكنني لم أذهب للحج هذا العام.
وفي المساء جاءه من يقول له بالمنام: يا ابن المبارك، لقد أكرمك الله كما أكرمت أم اليتامى وسترك كما سترت اليتامى، إن الله سبحانه خلق ملكاً على صورتك، كان ينتقل مع أهل بلدتك يؤدي مناسك الحج عنك؛ وإن الله تعالى كتب لكلّ حاج ثواب حجة وكتب لك أنت ثواب سبعين حجة.
هذه الحادثة توضح المعنى الحقيقي للطاعة، وتبين أن الإنسان هو القيمة الأغلا والأقدس في هذه الحياة.
إنها ترسّخ ثقافة الأجر الحقيقي للطاعات.
إننا بحاجة إلى أن تصل هذه الثقافة إلى جميع أغنياء وطننا الراغبين بثواب الحج في هذا العام، للتخفيف من معانات الناس في وطننا العظيم.
فيا ربنا كن لنا عوناً ونصيراً.