بقلم: الشيخ الدكتور ربيع حسن كوكة
في مثل هذه الأيام من العام وحين يتأخر هطول المطر نستمع إلى صوته العذب يتسلل في شغاف القلوب وهو يشدو:
مولايَ أجفاني جفاهنَّ الكرى…
والشوقُ لاعِجَهُ بقلبي خيَّما
مولاي لي عملٌ ولكن موجبٌ…
لعقوبتي فاحننْ عليَّ تكرّما
وأُجلُ صدى قلبي بصفوِ محبَّةٍ…
يا خير من أعطى الجزاء وأنعما
يا ذا العطا…يا ذا الوفا… يا ذا الرضا…يا ذا السخا
اسقِ العِطاشَ تكرما…
فالعقل طاش من الظَّما
غِثِ اللَّهفان… وارو الظمآن
نعم توفي صاحب الصوت الماسي القامة العملاقة في سماء العالم صباح فخري، رحل ولكنه ترك أثراً كبيراً لا يمكن أن ينكره أحد ممن يهتمّ بالتراث الإنساني العالمي عامة وبتراثنا الوطني على وجه الخصوص.
رحل صباح فخري متحولاً من قِمّة فنية وطنيةٍ عظيمة إلى قيمةٍ طربيةٍ تُشبه الأسطورة في ألقِها وتميزها، تحول إلى رمزٍ من رموز الأصالة والتراث.
رحل ولا زال صوته العملاق يصدح بفاصل اسقِ العطاش في أذهان الناس، ذلك الفاصل الذي قام بتسجيل بصوته سنة (1962م) في الإذاعة ثم أعاد تسجيله في ضمن حلقات البرنامج الموسيقي ( نغم الأمس ).
ويعود تاريخ فاصل اسق العطاش إلى مئات السنين، حيث تعرضت مدينتنا حلب الشهباء إلى جفاف وقحط شديدين، وحُرِمت الأرضُ خير السماء، وضاقت على الناس الأرض بما رحُبت وتيقنوا ألا ملجأ ولا منجا من ذلك إلا بالتضرّع إلى الله تعالى فاتجه سكان هذه المدينة المؤمنة إلى خارج المدينة وصعدوا جبل جوشن “جبل مبنى الإذاعة” وهناك انطلقت القلوب والحناجر تتضرّع إلى ربِّ السماء، تائبةً طالبةً منه سبحانه الرحمة وزوال المحنة الشديدة، وحاشا لله أن يردَّ عباده خائبين فاستجاب لهم سبحانه وهطلت الأمطار بالتزامن مع أصوات تضرّعهم المرتفعة إلى السماء وهي تردد: ياذا العطا، ياذا الوفا، ياذا الرضا، ياذا السخا، اســـق العطـاش تكرماً.
فرح الناس بغيث رب العالمين وأقاموا الاحتفالات، وأنشدوا الموشحات والقدود الحلبية ابتهاجاً باستجابة الله لضراعتهم.
ومع الزمن أصبحت فقرات فاصل اسق العطاش تُنشدُ في المناسبات والأفراح، وكأيِّ شيءٍ لم يوثَّق كاد فاصل اسق العطاش أن يكون عُرضة للتغيير والتبديل والضياع، لولا أن الشيخ الصوفي عقيل المنبجي مبتكر رقص السماح المتوفى سنة (550هـ – 1150م) تصدى لجمع وترتيب فقرات الفاصل، حتى أخذ شكله الفني الحالي.
وحرصاً على الفاصل من الضياع، جاء الشيخ الموسيقي محمد الوراق الحلبي منشد الزاوية الهلالية بحلب المتوفى سنة (1317هـ- 1900م) فقام بتوثيق الفاصل في ضمن مجموعة من الفواصل الموسيقية في كتابٍ سماه ” سلافة الحان وسفينة الألحان”.
ثم أتى الموسيقي الحلبي أحمد الأوبري المتوفى سنة ( 1372هـ-1952م) فوثَّق الفاصل نقلاً عن كتاب الورَّاق فطبعه في كُتيّبٍ حمل عنوان “فاصل اسق العطاش الشهير”. وصدر الكتيب في تموز عام 1929.
وظل فاصل ( اسق العطاش ) يُقدم ناقصاً أو على شكل فقرات منفصلة إلى أن قام بتسجيله بصوته الشيخ علي الدرويش وهو أول من غناه، وفي عام (1958) قام الموسيقار توفيق الصباغ المتوفى سنة ( 1384هـ- 1964م) بتسجيله في إذاعة حلب من إعداده وغناء محمد خيري. ثم جاء العملاق صباح فخري فسجله كما أسلفت سنة (1962م) أي منذ قُرابة الستين عاماً.
فاصل اسق العطاش يبدأ بالمقدمة التي تحوي الدعاء لله تعالى ثم تبدأ الموشحات والقدود الحلبية التي يتناوب على غنائها المطرب والمجموعة، وتأتي بالتسلسل التالي :
1. موشح ( كئيب الفؤاد ) على نغمة الحجاز
2. موشح ملكتم فؤادي في شرع الهوى على نغمة حجاز دوكا
3. موشح (ويلاه من نار الهجران) على نغمة الحجاز
4. قد “هيمتني تيمتني” على نغمة حجاز دوكا
5. قد “جاني حبيبي أبو الحلقة”
6. قصيدة: يا لائمي بالهوى العذري كفاك شجار.
7. قصيدة: عطفاً أيا جيرة الحرم على نغمة الحجاز
8. موشح: يا غزالي كيف عني أبعدوك نغمة أصبهان من الحجاز
9. موشح: أهوى الغزال الربربي حجاز دوكا
10. موشح: كنت فين يا حلو غايب على نغمة حجاز دوكا
11. قد “قدك المياس” على نغمة الحجاز
12. قد “بيني وبينك حال العوازل”
وها نحنُ نرددُ ختام الابتهال في فاصل اسق العطاش راجين من الله تعالى أن يجعله دعاءً خالصاً لروح صباح فخري:
من منهل الإحسان…
غريب الأوطان
يا صاحب الورد الذي…
أحيا الحمى
املالي الكاسات…
يا ساقي الأجواد
وانعش من قد مـات…
ظمآن الأكباد
مُضْناك المأسور، العاني المهجور، العبد المكسور
رحم الله الفنان صباح فخري وغفر له وجعله في جنات النعيم.