الحكمة: بين ذهب الصمت ولؤلؤ الكلام

 

بقلم: الشيخ الدكتور ربيع حسن كوكة

لا زال البشر منذ أن خلقهم الله تعالى يتكلمون بلغاتهم المختلفة ومواضيعهم المتنوّعة، وهذا الكلام هو جسرُ التواصل فيما بين الإنسان والآخر، وإذا كان الكلام بهذه الأهمية وجب علينا نحنُ البشر أن نهتمَّ بوقعهِ وأثره ونسلك سبيل الحكمة في ذلك ما استطعنا.
كثيراً ما يكون الكلام دالاً على موقف معيّن يرمي صاحبه من ورائه إلى التعبير عما يجول في خاطره من أفكار، وبالمقابل فإن الصمت أيضاً يحملُ دلالةً بحسب مكانه في الحوار؛ كلٌّ من الصمت والكلام له قيمة في مكانه.
بيد أن الكلام قد يكون حسناً وقد يكون سيئاً إنه يُنبي عن فكر المتكلّم فإما أن يجد تأييداً وثناءً وإما أن يحصدُ تعنيفاً وبلاءً، وبطبيعة الحال لا أعني بالكلام ذلك الحوار الذي يكون بين المشتري والبائع مساومةً على بضاعةٍ ما، ولا أعني به أحاديث الضرورة بل أعني به ذلك الذي يُقصد من ورائه إثباتُ رأيٍ أو نفيه؛ الكلام الذي يُقيّمه الآخر.
وعلى خلفية احتمال ورود الإساءة للآخر ترجحت قيمة الصمت على الكلام في معظم النصوص التشريعية والتراثية والفكرية
ولا زلتُ أجنحُ إلى صدق وأحقيّة ذلك من خلال ما قرأتُ وسمعتُ وعاينت ففي أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم نقرأ قوله: (من كان يؤمن بالله و اليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت) رواه البخاري. وفيما رواه الترمذي عندما سُئل صلى الله عليه وسلم عن النجاة قال: (أمسك عليك لسانك). ونقرأ التحذير من الانزلاق في مهاوي الألفاظ في القرآن الكريم كقوله تعالى: { ما يلفظ من قولٍ إلا لديه رقيب عتيد} [ق:18]، وكذلك قوله سبحانه: { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله و قولوا قولاً سديداً}[الأحزاب: 70]
وقد شكل قناعة كبيرة لدى الناس معنى المثل القائل: “إذا كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب”، ولا عجب ففعلُ الكلام قد اشتُقَّ لغوياً من اللفظ الثلاثي (كَلَمَ ) وإذا نظرنا إلى تجليات هذا الفعل في معاجم اللغة العربية نجد أن أحدها يدور في فلك الجَرْحِ والإدماءِ فقالوا: كَلَّمه كَلْماً: جَرَحَهُ، وأَنا كالِمٌ ورجل مَكْلُوم وكَلِيم. فكأن الكلام يجرحُ هدوء الصمت ورزانته؛ بل وكأن الكلام قادرٌ على أن يفعل فعل الحُسام في المُتلقِّي عندما يكون مُسيئاً.
وأقف أمام حديثٍ نبويٍّ شريف رواه الترمذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من صمتَ نجا). لأجعل منه عنواناً لحكايةٍ سمعتها تتلخَّصُ في أنه كان هناك أُناساً يعملون في التجارة، وبينما هم يسيرون بقوافلهم في البادية جاءهم الخبر بأن جماعةً من قُطّاع الطُرُق يترصَّدون للتجار المارين، فأخذ بعضهم يُسرع بقافلته وبقي آخرون يسيرون على طبيعتهم حتى أظلم الليل وتفرّقت القوافل، وراح المُستعجل يحدو بنوقه بصوتٍ شجيٍّ لتسير بسرعةٍ أكبر، فكان صوته دليلاً لقطاع الطرق على قافلته فسطوا عليها وشدوا وثاقه ونهبوا أمواله وبينما هم كذلك مرَّ أحد التجار على مقربةٍ منهم يسيرُ بقافلته بصمت فلم يلفت لهم نظرا ونجا بنفسه وماله.
وفيما يُشبِهُ قصص كليلة ودمنة يروى أن غراباً حلّق في السماء طويلاً ليعثر على طعام له فحصل على قطعة من جبن، ووقف على شجرة يريد أكلها فوقف تحت الشجرة ثعلباً جائعاً وأخذ يسأله: هل أنت جائع، والغراب يهزُّ له برأسه وهو يحمل قطعة الجبن بمنقاره، وبعد أن أكثر الثعلب الكلام قال للغراب: أعتقدُ أنَّك لا تُحبُّ الجبن. فأجابه الغراب بنزقٍ: بل أُحبه؛ وفور نُطقه سقطت قطعة الجبن التي كان الثعلب بانتظارها لتكون وجبة طعامه الشهي، ولو أنه بقي صامتاً لنجا بطعامه.
ولعلَّ الشاعر شرح قصص الصمت ببيتٍ واحدٍ من الشعر حين قال:
إذا لم يكن صمتُ الفتى عن ندامةٍ … وعيٍّ فإن الصمت أولى وأسلمُ
على أن النُّطق بالخير أولى من الصمت مُطلقاً ففي الحديث النبوي نقرأ قوله صلى الله عليه وسلم: (عليك بالصمت إلا من خيرٍ فإنه مطردةٌ للشيطان وعون على أمر دينك ) رواه الطبراني.
فيا من ملك الكلام الشافي فصمت لقد أخطأت؛ ويا من تهوّر بالكلام الجافي فجرح أجدرُ بك أن تكون صامتا.
قال تعالى:{ يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ}[البقرة:269] .

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار