بقلم عبد الخالق قلعه جي
بعدما استعصت علي و إنحبست .. رحت أستحضر إسق العطاش ، عساها تنهمر كلمة ريَّا ، تنزلنا الزمن الأول .. تكلل أحرف العبور الصعب ، وتكون فاتحة البدء .. مفتاحاً .. يأذن أن ادخلوها بِعُلوٍ .. عاشقين .
ثمانية وثمانون عاماً .. ما ملَّ له صبر ، و لا جفت له عبرة … أيُّ سبيل في الدجى يحملنا ، إلى ذلك الحي الوادع ؟ وأيُّ ترانيم ؟
من الديار التي نحنُّ شوقاً إليها..وعبر عشرات من السنين ، شلال من حكايا .. يتدفق .
والله إني أحب بكاء هذا الطفل .. ربما هي الشهادة الأولى ، وهو في المهد صبياً ، وعنها يقول : ” بدأت أغني مذ ولدت ” . عام ألف وتسعمئة وثلاثة وثلاثين كان حي القصيلة يعلن ولادة صباح الدين أبو قوس الذي ملأ الدنيا وشغل الناس .
قلعة حلب بمدخلها الرئيسي ، تشرف على هذا الحي … إلى اليسار قليلاً .. يقوم جامع الأطروش ، أحد المكونات الأثرية الهامة هناك ، والتي تحمل أصالة العمارة الحلبية التقليدية وحداثتها .
مع سنواته الأولى ، حفظ صباح الدين القرآن الكريم – تجويداً – على والده الذي كان شيخ طريقة بالإضافة إلى أنه كان يدرِّس في ذلك الجامع .
عن تلك المرحلة .. مرحلة التشكل الأولى ، وخلال لقائي المطول معه .. مع الكبير صباح فخري في إذاعة حلب عام 2010 قال :
” في السابعة من عمري ، بدأت بحضور حلقات الأذكار التي كانت تعقد في بيتنا ، والذي كان يتردد إليه كبار المنشدين آنذاك .
في تلك الفترة أيضاً كنت أرافق والدي إلى حلقات الذكر في البيوتات الأخرى .. وإلى التكايا والزوايا .. أتشرب من المنشدين الكبار ، ما يقولونه في تلك الأذكار ، من أمثال صبحي الحريري والشيخ رديف وغيرهم كثير .. و ليعرِّش النغم في داخلي ، ويشرق ذكر الله . “
بالإضافة إلى الأسماء الفنية الكبيرة ، التي تعرف إليها في مجال الإنشاد ، وأخذ عنها .. انطلق صباح للاستماع إلى عمالقة ورواد الغناء في حلب أسعد سالم .. محمد النصار .. مصطفى الطراب .. أحمد الفقش .. بكري الكردي وغيرهم .
لعل المطرب مصطفى الطراب ، كان الأكثر تأثيراً .. إذ كان سيد من أنشد القصيدة عدا عن صلة القربى التي كانت تجمعه به ، ما أسهم أيضاً .. في الكشف عن مَلَكة التذوق لقصائد الشعر العربي وحفظِ الكثير من عيونها .
مع بزوغ اسمه ، وما تشكل لديه من مخزون فني ، بدأت دعوة صباح إلى الموالد والسهرات مع الفنانين الكبار ، وكان يلتقط كل ما يسمع مباشرة ، ما أثرى ذاكرته الفنية عبر الموشحات والقصائد والأدوار وألوان الغناء العربي الأخرى .
المحطة الأهم في تلك الفترة كانت عام ألف وتسعمئة وسبعة وأربعين ، وذلك من خلال تعرفِه على عازف الكمان الحلبي الشهير سامي الشوا ، والذي كان في زيارة لحلب ، قادماً من مصر .. حيث أعجب بصوته وقدَّمه في عدة حفلات بحلب ، وبعض المحافظات السورية ، وفي دمشق … ليقرر سامي الشوا بعدها ، اصطحاب صباح إلى مصر حيث يقيم .
في واحدة من حفلاته التي شارك فيها بدمشق كان فخري البارودي مؤسس المعهد الموسيقي الشرقي بدمشق ، حاضراً تلك الحفلة ببلودان .. فُتِن بصوت صباح ، وأصر بعدها على أن ينتسب إلى معهده ، ويقدم له حفلاً أسبوعياً في إذاعة دمشق .
شكلت هذه المحطة ، نقلة نوعية في مسيرة صباح الفنية ، ووضعته على مفترق طريق ، وأمام قرار صعب .
كان البقاء في دمشق هو قرار صباح .. لينضم إلى المعهد دارساً فيه ، وليعود سامي الشوا خالي الوفاض بعدما خسر رهانه بأن يصطحب معه صاحب هذا الصوت الآسر إلى مصر التي كانت حلم كل فنان .
“قررت أن أبقى هنا ، وأتابع تحصيلي الموسيقي ..لأغوص في تراث هذا البلد وأصالته ، وأحمد الله الذي وفقني ، لأن أحيي هذا التراث وأوصله إلى العالم العربي والعالم ، وأحصل على أكبر الشهادات وتُقدم لي مفاتيحُ المدن ”
هذا ما أجابني به الكبير صباح فحري لدى سؤالي عن قراره هذا .. ولنا متابعة .