الجماهير – بيانكا ماضيّة
دأبت السينما السورية، منذ اندلاع الحرب على سورية، على الإبحار عميقاً في المأساة السورية التي تمثّلت بحكايات وقصص لم يشهد تاريخ الحروب على وجودها؛ لما تتضمنّه من مواقف وأحداث مفارقة يتجلّى فيها الجرح والشرخ اللذين حفرا عميقاً في الوجدان السوري.
مشاهد الحب، ومشاهد الموت، وتجسيد لعمليات التعذيب التي تعرضت لها النساء السوريات في أثناء اختطافهن من قبل المجموعات الإر*هابية، والمفارقات الحاصلة والتي قد يصدم المتلقي بها، وخاصة في الروابط الاجتماعيّة التي قد تربط مابين أحد أفراد المجموعات الإر*هابيّة المسلّحة وبين أحد أبطال الجيش العربي السوري، إضافة إلى الخيبات والمآسي والعذابات النفسية والجسدية، تلك التي حفلت بها الصورة السينمائية متغلغلة في عمق الحدث؛ لتظهر للمتلقي نتيجة وأثر هذه العذابات على النفس السورية، مهما بلغ الأمر من تصالح أو توحّد حول وجود عدو واحد هو الأحرى بقتاله وسحقه.
فضلاً عن هذا تتجلّى مشاهد النزوح، ودروب الموت التي يعبرها السوريون من أجل الخلاص من واقع قاهر، والتي أرغمت بعض الأسر على ترك أراضيهم وبيوتهم إلى واقع آخر لايعرفون عنه شيئاً، وكذلك حالات الفقد التي نالت من الأطفال ليجدوا أنفسهم وحيدين بعد مقتل عائلاتهم، أو استشهادها بفعل قذائف الموت التي طالت حتى معابر الموت.
(نجمة الصبح) للمخرج جود سعيد، والذي يعرض حالياً في حلب، من الأفلام السينمائية التي مازالت المأساة السورية تحتل مكاناً متقدّماً فيها، وفي تجسيد آخر لقصة قابيل وهابيل، يظهر الصراع محتدماً بين الإخوة في هذا الفيلم، ليعيد تمثيل الحدث في شكله الحديث والذي كثيراً ما أظهرته الحرب على سورية من اقتتال للإخوة فيها واقتتال لأبناء العمومة وغيرها من مشاهد، وعبر توظيف مشهد الصلب، الذي يحيلنا على صلب السيد المسيح، يتكئ الفيلم على هذه الاستعارات الرمزية لإظهار عمق الحدث الذي يظهر خلف مشهد الصلب، إضافة إلى ماترمز إليه نجمة الصبح في الميثولوجيا من ارتباطها بكوكب الزهرة الذي تنتمي إليه عشتار، إضافة إلى المكان الذي اختلفت خصائصه باختلاف الأحداث، فمكان لعب الأطفال وأحلامهم الوردية يصبح فيما بعد مقبرة لكل العائلة.
إن الحرب التي نجد آثارها في كل مكان وزمان، وهي ممتدة أبعد من هذا إذ تحفر عميقاً في النفس والوجدان، حتى ليمكن القول _إن جاز التعبير_ أنها لاتنتج الموت والعذاب والآلام وحسب، وإنما تنتج إبداعاً فتكون موقداً لإنتاج فكري ثقافي يتجلّى في غير فن، ولعل الفن السينمائي هو أحد هذه الفنون البصرية التي تبقي الصورة مائلة في الأذهان، تماماً كما كانت في الواقع، وهي بهذا لاتضيف إلى تاريخ السينما وحسب بل تؤسس لمستقبل أساسه الحياة وتفاصيلها المتعددة الأشكال، تلك التي ربما لا ينتبه إليها لولا الحروب، ولولا توظيف أحداثها في الفنون الإبداعيّة.