أخيراً.. فنّ (القدود الحلبيّة) في قائمة منظمة اليونيسكو للتراث الثقافي اللامادي

الجماهير – بيانكا ماضيّة

“من منطلقِ القولِ المأثورِ: لكل مقامٍ مقال.. حارَ القسُّ السريانيُّ “مار أفرام” 306 ميلادي وتساءل: ما بالُ هؤلاء الناسِ في حلبَ يأتون إلى الكنيسةِ أحداً، وينقطعون عنها آحاداً؟! فلأصنعَ لهم عملاً يحبِّونه، ويأتون من أجلِه إليّ. وراح يبحثُ عن أحبِّ الأشياءِ إليهم، واكتشفَه دون عناءٍ طويلٍ. إنّه الغناءُ، إنَّها الأغاني الشعبيّةُ التي يرددونَها في أعيادِهم واحتفالاتِهم. وحين تمعّن القسُّ مار أفرام في ألفاظِها ومعانيها لم يرَها مناسِبةً ليتغنوا بها أمامَ محرابِ الربِّ، وهنا خطرَ على بالِه أن يأخذَ اللحنَ الذي يحفظونه جيداً، وعمدَ إلى النصِّ، فغيّرَه إلى كلامٍ دينيٍّ منظومٍ على أعاريضِه، وجعلَ الناسَ والمصلّين في الكنيسة يرددونه، يأخذونَ النصَّ الجديدَ، ويغنون باللّحنِ المألوفِ لديهم، وهكذا عُرف أقدَمُ قدٍّ في حلب، وكانت قدودُ القسّ مار أفرام في الكنيسة السريانيّة هي أقدمُ القدودِ في حلب” حسب كلامِ الباحث الدكتور محمد قدري دلال عن القدودِ الحلبيّةِ ونشأتِها.

ويتابعُ: القدُّ في اللغةِ، هو القامةُ أو القطعُ أو المقدارُ، واصطلاحاً هو أن تصنعَ شيئاً على مقدارِ شيءٍ آخر، كأنْ تأخذَ نصاً شعريّاً مغنّى أو لحناً آلياً، وتصنعَ على نصِّ الأولِ أو لحنِ وإيقاعِ الثاني ما يوافقُهما. والقدُّ الحلبيُّ قد يكونُ له معنى آخر، أو بالأحرى اسمٌ يُطلق على لونٍ من ألوانِ الغناءِ، وقالبٍ للتأليفِ الغنائيّ الحلبيّ. فهناك من قال بأنَّه موشحٌ من الدرجةِ الثانيةِ، إذ أن الموشحَ أرقى صنعةً، وأعلى صياغةً، وأشدُّ ترابطاً، وأمتنُ تأليفاً، وأكثرُ تعقيداً من حيث إيقاعاتِه. هذا كلُّه من الناحيةِ الموسيقيةِ واللحنيّةِ، أما من ناحيةِ النصِّ الشعري، فالقدُّ والموشحُ صنوان. نحن نرى شعراً رائعَ الألفاظ، ورفيعَ المعاني، وشائقَ التراكيبِ، وجميلَ المحتوى، وسهلَ المتناول، ولا يصعبُ غناؤه على الجماهير، إذ هم يلتقطون ألفاظَه ولحنَه دون حِرفيّة من يريدُ حفظَ الموشحِ وإيقاعِه، بمعنى أننا هنا أمام مُسمَيين لشكْلٍ واحدٍ من أشكالِ الغناءِ في حلب.

اشتهرَ بغناء هذه القدودِ عددٌ من المغنين الحلبيين، وكان أشهرُهم صباح فخري، رحمه الله، الذي برعَ وتميّز في غنائهِا، متربّعاً على عرشِها لا ينافسُه فيه أحد، وهو الذي حفظ هذه القدود من الاندثار محيياً إياها عبر استخراجها من التراث وإعادة إغنائها بالشكل الذي تم فيه غناؤها، ومن ثم تابعها على منوالها الكثير من مطربي حلب وفنانيها.

ومن أشهر القدود الحلبيّة التي غنّاها “فخري”: “البلبل ناغى ع غصن الفل، وقدك المياس، وأنا وحبيبي، وقل للمليحة، وياما اسعدك صبحية، وياهويدلك، وسكابا يا دموع العين، وهلاهلا يا جملو، ودومك دومك دوم، ويا شادي الألحان”.

وأخيراً يتمّ إدراج القدود الحلبيّة في قائمة منظمة اليونيسكو للتراث الثقافي اللامادي، ليكون جزء من ثقافة وتراث المجتمع السوري العريق مضافاً إلى التراث الإنساني العالمي، هذا الجزء الذي يشكّل وجدان وثقافة هذا المجتمع وعمق أصالة هويته الفنيّة، إذ لابد من أن أبناء سورية جميعهم تغنّوا بهذه القدود التي تأثرت بها مشاعرهم وأحاسيسهم، فأطربتهم وأسعدتهم، شاكرين الأمانة السورية للتنمية على الجهود الكبيرة التي بذلتها في سبيل إعداد ملف القدود ومتابعته في منظمة اليونيسكو ليتم إدراجها اليوم على قائمتها مخلّدة إياها في سجل التراث الإنساني العريق الذي يعبّر عن حضارة الشعوب وأصالتها الفنيّة.

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار