حلب ..خمسةُ أعوام بين ألم وعمل وأمل

بقلم: الشيخ الدكتور ربيع حسن كوكة

سهلٌ على الشريرِ تدميرُ البِنا
وإصابةُ الجمعِ المُسالمِ بالعَنا

لكنَّ فعلَ الخيرِ غيرَ مُسهَّل
إلا لمَنْ عشقَ المعاليَ والسَنا

زرعَ الفضيلَة في نفوسٍ فارتقت
وترنّمت عشقاً على دَربِ المنى

رددتُ هذه الأبيات من نظمي على مسامع بعض الناس عندما كُنا نتحاور في موضوع التعمير والتدمير من حيث المبْنى والمعنى.

خمسة أعوامٍ من إعادة الأمل إلى القلوب وتضميد مواطن الألم عند الناس؛ خمسة أعوام من محاولات إعادة الألق إلى عيون الحبيبة العظيمة حلب، خمسة أعوامٍ من الجهد والصبر والمصابرة والمثابرة.
رضي البعضُ أم سخط، حلب الشهباء كالعنقاء تنبعث من رماد ماضيها.

الحياة كما هو معلومٌ كلها مكابدة وتعب ولقد قال ربنا تبارك وتعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ} [سورة البلد: 4] غير أن هذا التعب وتلك المكابدة لا ينبغي أن تَحول دون ابتسامة الإنسان وانبعاثه في كل يومٍ فيها؛ يحدوه أمل جديد رغم كل ألمٍ قد يعترض طريقه؛ إن إشراقة القلب أعظم بكثير من إشراقة يومٍ يحملُ المرء في داخله هموم الماضي وأعباء الحاضر وهواجس المستقبل.
لا بدَّ من التفاعل مع الواقع والسعي في هذه الحياة وعلاج ما يعترضُ طريق تقدم المرء فيه بأسلوبٍ سلسٍ مفعمٍ بحُسن الظن بالله تعالى، ثم الثقة بالنفس، بعيداً عن التشاؤم والاستسلام، قال تعالى: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ * هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} [سورة الملك:14- 15]
وكنت قد قرأت قصة ترسي هذا المعنى وهي ما يُحكى عن رسامٍ تتلمذ على يد فنان كبير، حتى غدا ماهراً في الرسم وفنونه، فأراد أن يتأكد من نفسه ومن قدرته على اقناع الآخرين بفنِّه، فرسم لوحة جميلة وضع فيها عُصارة خبرته ومهارته في هذا الفن، ثم وضعها في قارعة الطريق حيث يمرُّ الناس بكثرة، وكتب على تلك اللوحة: من رأى منكم أي خطأ في اللوحة ، فعليه أن يضع إشارة ضرب ( x)؛ أمضى ذلك الرسام ليلته يتوجّس ويتوقع ردَّة فعل الناس، وعندما عاد من الغد وجد لوحته الجميلة قد انطمست تحت إشارات (x) ولم يعد يرى منها شيئاً.
فما كان منه إلا أن ذهب إلى أستاذه حزيناً بائساً ، ليعترف أمامه أنه فاشل في فن الرسم، والدليل هذه اللوحة التي انتقده فيها الناس فلم يتركوا مكاناً إلا وعبروا فيه عن عدم إعجابهم بتلك الإشارة.
طلب منه معلمه أن يُعِد رسم اللوحة ، وأن يضعها في نفس المكان الذي وضعها فيه بالأمس، غير أنه غيّر الأسلوب فقد طلب منه أن يكتب عبارة ( أطلب من كل من ينتقد شيئا ما في اللوحة أن يحسنه ويصححه).
فعل الرسام ما أشاره عليه أستاذه ولما عاد من الغد، تفاجأ أن اللوحة في مكانها نظيفة ، ولم يتم أي تحسين أو تعديل فيها.
علم الرسام أنه من السهل على الناس كائناً ما كانوا أن يمسكوا القلم ويخربشوا على اللوحة ولكن من الصعوبة بمكان أن يمسكوا القلم ويأتوا بشيء أفضل مما رسم.
إن الذين يحملون في طواياهم نفوساً تحبُّ البناء هم الرحماء بالناس لا ينطقون بما تضيق الصدور له عند محاوراتهم، ومن علامتهم أنهم ينظرون من كل شيء أحسنه، ولا يجري على ألسنتهم إلا الخير، لا يواجهون أحداً بكره، حتى وإن كان موصوفاً بمذمة فهم يتعامون عنها؛ فمثلاً يُروى عن سيدنا عيسى عليه السلام أنه حين مرّ على جيفةٍ لدابة قال مرافقوه: ما أنتن ريحها؛ فقال عليه السلام: ( ما أحسن بياض أسنانها )
نعم يسهل على الإنسان أن يهدم أعظم تمثال بمعولٍ أو فأس صغير، ولكن من الصعب أن يقوم بنحتِ جزءٍ صغيرٍ منه؛ الخراب يقوم به أي كائن، ولكن البناء لا يقوم به إلا الرحماء العباقرة والمبدعين.

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار