بقلم: الشيخ الدكتور ربيع حسن كوكة
لا يزالُ الحوار هو السبيل الأكثر صواباً لتسهيل التفاهم والتواصل بين الناس؛ وأداةُ الحوار هي اللغة؛ هي الفكر الناطق كما أن التفكير هو اللغة الصامتة.
إن اللغة عموماً قيمة جوهرية كبرى في حياة كل أمة فهي الوسيلة التي تحمل الأفكار، وهي الخزان الثقافي الذي يُمدُّ الأمة بعناصر البناء والتقدم والحماية؛ إنها الماضي والحاضر والمستقبل.
يقول مصطفى صادق الرافعي: “إن اللغة مظهر من مظاهر التاريخ، والتاريخ صفة الأمة. كيفما قلّبت أمر اللغة – من حيث اتصالها بتاريخ الأمة واتصال الأمة بها – وجدتها الصفة الثابتة التي لا تزول إلا بزوال الجنسية وانسلاخ الأمة من تاريخها”
إن نسيج لغتنا العربية؛ أحرفها وكلماتها هي القوالب التي اختارها الله تبارك وتعالى لكلامه؛ فكان القرآن الكريم المعجزة الكبرى قال تعالى: {إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون} [يوسف:2] وقال سبحانه: { قُرْءَانًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } [الزمر: 28]، وقال تعالى: { وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ } [النحل: 103]
ورد في فضل اللغة العربية والعرب الكثير من الأحاديث والآثار منها قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أحبوا العرب لثلاث : لأني عربي والقرآن عربي وكلام أهل الجنة عربي) رواه الطبراني وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: ( أحبوا العرب وبقائهم فإن بقائهم نور في الإسلام وإن فنائهم ظلمة في الإسلام ) ورواه الدارقطني وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم ( حب العرب إيمان وبغضهم نفاق ) ورواه الدارقطني
لغتنا العربية: ولدت في غاية الكمال، وحوت محاسن الخصال، وتربعت على عرشِ الجمال.
لغتنا العربية: رُقيٌ في التعبير، وسدادٌ في التفكير، وقدرةٌ على التطوير.
لغتنا العربية: لسان الحكمة الناطقة، وشمسُ المعارف البارِقة، وخزان المشاعر الصادقة، لسانُ القرآن ونورُ البيان وسميرُ الإنسان.
لغتنا العربية: صورٌ مرسومةٌ بالكلمات، ومشاهد مرصودةٌ بالعبارات، خفقُ القلوب، وبوحُ الدروب، وقرآن علّام الغيوب.
لغتنا العربية هي أقدم اللغات التي ما زالت تتمتع بخصائصها من ألفاظ وتراكيب وصرف ونحو وأدب، مع قدرتها الكاملة على التعبير عن كلِّ ما يجول في العالم أو يُستحدث من أمور؛ إنها أداة التعارف بين مئات ملايين البشر المنتشرين في آفاق الأرض، وهي ثابتة في أصولها وجذورها، متجددة بفضل ميزاتها وخصائصها.
فهي أقدم اللغات الحية على وجه الأرض، تجاوزت في عمرها الستة عشر قرناً، وقد تكفّل الله تعالى بحفظها حتى يرث الله الأرض ومن عليها، قال تعالى {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} [الحجر: 9]، ومع بزوغ شمس الإسلام انتشرت اللغة العربية بانتشار الإسلام في بقاع الدنيا وارتبطت بحياة المسلمين فأصبحت لغة العلم والأدب والسياسة والحضارة فضلاً عن كونها لغة الدين والعبادة، بل وأصبحت بعض أفراد الشعوب ممن يشغفون بالعلم يتعلمون اللغة العربية لتكون آلتهم في تلقي العلوم المختلفة في عواصم العلم في الدنيا في عصور الازدهار في دمشق وبغداد والقاهرة.
لقد استطاعت اللغة العربية أن تبني حضارةً راسخةً مستوعبةً في ثناياها جميع الحضارات المختلفة المعاصرة لبروزها؛ الفارسية، واليونانية، والهندية، فشكلت مع تلك الحضارات وحدةً إنسانية حضاريةً عالمية المحور، إنسانية الرؤية، وكان ذلك لأول مرّة في التاريخ، ففي ظل القرآن الكريم أصبحت اللغة العربية لغة عالمية، واللغة الأم لبلادٍ كثيرة.
يقول الفرنسي إرنست رينان : (اللغة العربية بدأت فجأة على غاية الكمال، وهذا أغرب ما وقع في تاريخ البشر، فليس لها طفولة ولا شيخوخة)
غير أن اللغة العربية في أيامنا تحتاج إلى ترسيخٍ في نفوس العرب؛ لتستعيد مكانتها التي كانت عليها في التنوير، يقول الإمام الشافعي في معرض حديثه عن الابتداع في الدين ( ما جهل الناس، ولا اختلفوا إلا لتركهم لسان العرب ) وقال الحسن البصري في أهل الضلال ( أهلكتهم العُجمة )
لقد فرّط الكثير من الناس بمكانة اللغة العربية في حياتهم فاستبدلوها بالعامية؛ واخترعوا مقاربةً بين الفصحى والعامية لتكون لغة حواراتهم الرسمية؛ ومزج بعض الناس اللغة العربية بكم هائل من الألفاظ الأجنبية بدعوى التطوّر والرقي على النحو الذي يُعْرَض في كثيرٍ من شاشات التلفزة.
ومن ناحيةٍ أخرى فقد تميزت لغتنا العربية بكثرة المترادفات؛ تحوّلت هذه الميزة في عصرنا إلى مرض لغوي عُضال؛ وانتشر استعمال الألفاظ بمعانيها العامة ففقدت لغتنا لدى أولئك ميزة الدّقة في التعبير؛ مما أدى إلى تداخل معاني الألفاظ وفقد الفكر الدقة والوضوح.
أمام هذه الأخطار العاصفة بِلُغتنا لا بدّ لنا من استنهاض الهمم لتشكيل وعيٍ لغويٍّ، لإعادة لغتنا إلى مكانها ومكانتها في فكرنا ومجتمعنا.
لو لم تكن أمُّ اللغاتِ هي المُنى
لكسرتُ أقلامي وعفتُ مدادي
لغةٌ إذا وقعت على أسماعنا
كانت لنا برداً على الأكبادِ
ستظلُّ رابطةً تؤلف بيننا
فهي الرجاءُ لناطقٍ بالضادِ