بقلم عبد الخالق قلعه جي
في التاسع عشر من كانون الأول لعام ألفين وستة عشر، واحتفاءً بانتصار حلب ، انطلقت من أمام مسرح نقابة الفنانين بمنطقة الجميلية .. جموع من أبناء حلب الشهباء في رحلة الشوق إليها ..كنا نحث الخطى .. نسابق آلة الزمن ، ولسان الحال يلهث أطويلٌ طريقنا أم يطول .
عبر ساحة سعد الله الجابري إلى شارع بارون .. بابٌ للفرج وعلى توقيت انتصارها حمَلَنا داخلاً إلى خان الحرير، فالجامع الأموي وطلعة خان الوزير وصولاً إلى قلعة حلب ، مؤدين فريضة العشق الأبدي .. رحلة أسميتها في ذلك الوقت ” رحلة الحج إلى المدينة القديمة “.
بخشوع .. وقف الجميع أمام قلعة حلب .. ودموع الفرح تطفئ لظى أرواح أنشدت ، كما لم تنشد من قبل .. حماة الديار عليكم سلام .
منذ مئاتٍ من السنين .. حلبٌ قصدنا ، قالها المتنبي .. وهي السبيل .
الكبير نزار قباني قال : كل دروب الحب توصل إلى حلب .
في الخامس عشر من الشهر الجاري ، كان درب حلب الذي غناه صناجة العرب ، مقصد اليونسكو .. لتعلن القدود الحلبية على لائحة التراث الإنساني .
في نعيها للراحل الكبير صباح فخري ، صاحب الفضل في توثيق القدود الحلبية ونشرها ، أصدرت الأمانة السورية للتنمية بياناً .. ختمته بوعدٍ أن يكون هذا العام ، محطة في تاريخ القدود الحلبية وهويتها السورية عالمياً ، من خلال العمل على تسجيلها في اليونسكو ، كجزء من التراث الإنساني لعام ألفين و واحد وعشرين .
ولأننا نعرف قيمة موروثنا هذا .. الذي حملته آلاف من السنين .. نقول : مصدر فخر واعتزاز لنا هذه الخطوة ، مثلما هي مصدر غنى للتراث الإنساني ، أن تدرج القدود على لائحته .
أسئلة عديدة تطرح في هذا المقام .. ورسائل يحملها الجواب ..مشكلاً أسئلة من جديد. لعل بعضها يقول : لِمَ وصلت القدود .. وكيف ؟ من هم أصحاب الفضل في ذلك ؟ ما هي الخطوة التالية ؟ وكيف ننجزها ؟
كيف نستمر بهذا التراث ؟
ماذا عن تطويره ؟
هل من قدود جديدة يمكن ( أو يجب ) أن تنضم إلى سابقاتها ؟
ماذا عن دور شعراء الأغنية وملحنيها ؟
كل أحرف الاستفهام تحضر.. والمحبون أدرى وقد سُئِلوا …
منذ انطلاقتها عام ألف وتسعمئة وتسعة وأربعين ، كان الاهتمام بالجانب الغنائي والموسيقي ، واحداً من أهم الأدوار التي لعبتها إذاعة حلب ، ما يتعلق بتوثيق التراث الغنائي الموروث ، والمتناقل سماعاً ، من قدود وموشحات وأدوار وقصائد .. وتدوينه بالنوطة الموسيقية ، وتسجيله في إذاعة حلب .. بالإضافة إلى الموسيقا الآلية التراثية ، التي عرفت بها حلب .. بشرف .. سماعي.. تحميلة .. دولاب .. تقاسيم .. لونغا .
الخط الثاني : يتعلق بالإنتاج الغنائي الجديد “كلمات وألحاناً ” وذلك استمراراً وإغناءً لمدرسة حلب الفنية ، من موشحات وأدوار وقصائد وقدود وغيرها من الألوان الغنائية الأخرى .
لهذا الغرض ، شكلت إذاعة حلب فرقةً موسيقية ، ضمت أبرز العازفين في ذلك الوقت ، كما شكلت أيضاً لجاناً للاستماع ، والتي كانت تقِرُّ المنتج الفني ” غنائياً كان أو موسيقياً وتجيز عرضه في الإذاعة ويحفظ في الأرشيف .
حسب النغمة التي لحنت عليها ، جُمعت القدود الحلبية في وصلات .. سجلها في إذاعة حلب مطربو حلب الكبار .. صباح فحري .. محمد خيري .. مصطفى ماهر .. سحر ربيعة عز الدين وغيرهم .
عبر عشرات السنين ، بلغت شهرة القدود الحلبية الآفاق ، كنمط غنائي حلبي سوري وذلك عبر الحفلات والمهرجانات ، التي كانت تقام في معظم العواصم العالمية وعلى مسارحها ، ولعل هذا الانتشار يدين بشكل خاص للراحل الكبير صباح فخري الذي اعتبر بحق سفيرها إلى العالم .
تقصر كل الكلمات وآيات الشكر والوفاء عرفاناً بالفضل لمبدعينا الأوائل وأعلام الغناء و الموسيقا في مدرسة حلب الفنية .. رواداً ومعاصرين .. لكل من أرسى وحفظ ونقل هذا الموروث ..جهات معنية وأهلية وأفرادا .. وللأمانة السورية التي أنجزت الوعد .
تسجيل القدود الحلبية على لائحة التراث الإنساني بين أيدينا أمانة ومسؤولية ورسائل في جميع أبعادها تقول بأهمية مشروع التوثيق وبناء الذاكرة .
دور يقع على الجميع النهوض به إيماناً ومحبة وعملاً ، وللشباب آفاق عمل .. الإقتداء بالكبار والوفاء لهم أحد عناوينها .. صوناً للهوية وحمايتها وحفاظاً على التراث الوطني .
بشكل يومي تبث إذاعة حلب القدود الحلبية والموشحات ، لتبقى حية مستمرة .. يحفظها الصغير قبل الكبير .. ولعل السر في القدود .. ما أوتيت من صعوبة البساطة والصدق والجمال وهي تغني للحياة والحب والإنسان .