بقلم: الشيخ الدكتور ربيع حسن كوكة
الوصلُ يُثمرُ دائماً إحسـانا …
والبعدُ جفوٌ كائناً ما كانا
أمسك حبالَ الودِّ تُمْطَرُ رحمةً…
ولئن قَطَعْتَ فَلَنْ تَنالَ حَنانا
غالباً ما يُدركُ لاعب الشطرنج لغز الرقعة وتحركاتِ بيادقها وخططها المتقنة ذات المرمى البعيد عندما يكون متفرجاً عليها أكثر ممن يُشارك في اللعب، وكذلك يمكن للمرء أن يُشبِّه هذا العالم كرقعةِ شطرنج لا يستطيع أن يُدرك عمق تحولاته وتحركاته إلا إذا نظر إليه كرقعةٍ واحدةٍ متواصلةٍ متلاحمةٍ يؤثّر بعضها ببعض، وهذه الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والأخلاقية التي يعيشها واقعنا ونشاهدها ونسمع عنها في عالمنا هنا وهناك ما هي إلا نتيجة لتحولاتٍ في رقعته الكبيرة وتبدلاتٍ لموازين القوة فيها.
شهدنا في زمنٍ قريب كوارث طبيعية كثيرة أودت بحياة مئات الآلاف من البشر، وتركت ملايين منهم في حالة إعاقةٍ جسدية أو نفسية، ثم شهدنا كوارث صنعها الإنسان نفسه بأخيه الإنسان لمجرّد أن الآخر لم يخضع لإرادته ورفض هيمنة القطب الواحد على هذا العالم، وبعيداً عن الخوض في تفاصيل الزمان والمكان فإن الأمر يبدو متشابهاً قال تعالى:{ وتلك الأيام نداولها بين الناس } [ آل عمران:140]فالأيام المَبْنية من أحداثِها تُكررُ بعضها بعضاً، ولا يَسعُ أهل الفهم من هذه الأيام إلا الاعتبار بالذكرى قال سبحانه: {وذكرهم بأيام الله إن في ذلك لذكرى لكل صبارٍ شكور} [إبراهيم: 5] ووحدهم أصحاب الصبر على البلاء والشكر على الرخاء يستطيعون أن يستخلصوا العبرة من هذه الأيام وأحداثها التي تدور كرحى طاحنة.
لماذا كل هذه الأزمات؟ لماذا هذا الجشع البشري المستشري؟ لماذا نُزِعَت الرحمة من قلوب أكثر الناس؟
والجواب هو ضعف الصلة بين الأرض والسماء، بين الخير المُطلق والأفعال ذات المنفعة الفردية، ضعف الصلة بين الخالق والمخلوق، إنه إعراضُ العباد عن ربهم. وليس ذلك خاص بدين من الأديان دون آخر، إنها الغفلة البشرية المُطْبِقَة على القلوب.
قال تعالى {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه:124] والضنك هو الضيق بإطلاقه وبأنواعه المختلفة، فالغني يمكن أن يحيى حياة الضيق والفقير كذلك، والقوي يمكن أن يحيى حياة الضيق والضعيف كذلك. والذكيُّ يمكن أن يحيى حياة الضيق والغبيُّ كذلك وهكذا. وسببُ ذلك الضيق في كل الحالات هو الإعراض عن الله، والإعراض هو عدم المبالات بالدستور الذي وضعه الخالق لعباده، الدستور السماوي المتمثِّل بالقرآن والإنجيل والتوراة والزبور والصحف وكل ما أنزله ربنا سبحانه على قلوب أئمة البشرية أعني الرّسل.
فالإعراض عن ذكر الله سبب في شقاء الدارين الضيق في الدنيا والعمى في الآخرة، وذلك الإعراض عن ذكر الله لا يقتصر على ترك صلاةٍ أو منع زكاة مع شناعة تلك الأفعال، بل إنه فَقْدُ تلك الصلة بين المخلوق والخالق من قِبل الأول الساهي الناسي الغارق في ملذاته وأهوائه وطمعه وجشعه، وإن كان صاحب هذه الصفات البشعة يقوم بالعبادات من حيث الهيئة غير أن قلبه معرض عن الله مقبل على سواه كل الإقبال فهذا له المعيشة الضنك الخانقة الضيقة.
وفي مُحاولةٍ هادئةٍ لتبيين الأمر أتساءل تُرى ماذا نُسمي ذلك المتدين من حيث الظاهر غير أنه يحرص على الرِّشوة حرصه على صلاته، هل نُسميه ذاكراً لله؟! واللهِ إن ذَكر الله وعلم أنه يراه لم يفعل فعلته. وماذا نُسمي مُظهِرَ الخيرية لمن حوله وهو يسعى في إيذائهم بشتى الطرق من أجل منفعةٍ صغيرة له، هل نُسميه ذاكراً لله! ماذا نُسمي من يسرق باسم الخير ويظلم باسم الفضيلة، هل أولئك ممن يذكرون الله؟ إنهم جميعاً هم المعرضون عن الله، القاطعون للصلة بين الأرض والسماء، الذين يعيثون في الأرض فساداً وإن تلوّنت أفعالهم واختلفت آثارها.
ولستُ أجد حلاً للخروج من أيِّ أزمة من الأزمات سواء كانت على المستوى الشخصي أو الجماعي، على مستوى الضمير الفردي أو على مستوى الضمير الجمعي للأُمّة، على مستوى البلاد والعباد، أقول لست أرى حلاً إلا إحياء تلك الصلة بين الأرض والسماء، تفعيل الخط الساخن بين المخلوق والخالق، {يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد} [ فاطر:15]. ويكون الخطاب الآكد لله تعالى قول القائل:
من فاتَهُ منكَ وصلٌ حظُّهُ النّدمُ ….
ومن تَكنْ همّهُ تسمو بهِ الهممُ
وخالقنا سبحانه دائماً فاتحٌ بابه لخلقه ليعودوا إليه ويطلبوا منه العفو عن الزلل والتوفيق في العمل وحُسن العاقبة عند انتهاء الأجل، إنه لا يوصد بابه في وجه أحد على الإطلاق.
أما قال رسوله صلى الله عليه وسلم ( احفظ الله يحفظك )؟، أولم يقل ربُّنا جلَّ من قائل: { أذكروني أذكركم}[البقرة:152]؛ فذكرنا له ليس تحريكَ لسان بل هو فعلٌ وإيمانٌ ورحمةٌ بالإنسان، وذكره لنا يحوي فيوضات الإحسان في دنيانا قبل آخرتنا، فلنحفر ساقيةً لاستقبال تلك الفيوضات في أرضنا من أفعالنا الخيّرة وهو سَيُجْري فيها ماء النصر والعز والقرب والاطمئنان. فالخير كل الخير منه سبحانه.