هكذا قال وفعل الأسد! (2)

الجماهير / بيانكا ماضية

أتابع في هذه المقالِة، بجزئِها الثاني، ماجاءَ في دراستي التي كتبتُها بعد خطابِ السيدِ الرئيسِ بشار الأسد خلالَ استقبالِه رؤساءَ المجالسِ المحليّةِ من جميعِ المحافظاتِ السوريّةِ، في قصرِ الأمويين للمؤتمرات، وكانت بعنوان (دلالاتُ ومعاني خطابِ السيّدِ الرئيسِ بشار الأسد: العقلُ السوريّ، وقوّةُ الشعبِ والجيشِ والحلفاءِ، والصمودُ السوري.. هي التي دحرتِ الإرهابَ وكسَرتْ شوكَتَه….حلب، النموذجُ الأمثلُ والأجملُ للدلالاتِ والمعاني كلِّها) والتي لم تُنشر حينها، إذ توقفّت عندَ العناوين الآتية:
منهجيّةُ التفكيرِ المنطقيِّ والعلميِّ لسيادة الرئيس!
وظّفَ سيادةُ الرئيسِ في هذا الخطابِ منهجيّةَ التفكيرِ المنطقيِّ العقلانيّ، والتفكيرِ العلميّ في آن، وقد طبَّق تلك المنهجيّةَ، حين تناولَ، في جزءٍ من خطابِه، مفهومي (القاعدة والقمّة) في الوقتِ نفسِه، إذ تجسّدت فيه، تلك الطريقةُ المنهجيّةُ التي تعتمدُ على التراتبيّةِ والتسلسليّةِ في تناولِ الأفكارِ والمواضيع، منطلقاً من “القاعدة” من الجزءِ إلى الكلِّ، ومن المصطلحاتِ والمفاهيم إلى الحقائقِ والبديهيات، ومن “القمّة” من العناوينِ الكبيرةِ إلى العناوينِ الصغيرةِ المندرجةِ تحتَها، مما يشيرُ إلى العلاقةِ التشاركيّةِ بين القاعدة/الشعب، وبين القمّة/ الرئيس، وإلى ذاك الاتصالِ السياسيِّ الذي عبّرت عنه مهارةُ الإبلاغِ والإقناعِ لدى السيّد الرئيس، ليصبحَ المتلقّي/ الشعبُ، لا طرفاً في تلقّي هذا الخطاب وحسب، وإنّما طرفٌ مُنتجٌ له أيضاً. ولذلك لم تكن هناك خشيةٌ وتهيّبٌ من وضعِ خصوصيّاتِ هذا الخطابِ موضعَ النقد، كما أشارَ السيّدُ الرئيس حين تطرّقِه إلى المجموعاتِ المسلحةِ العميلةِ للأمريكي، والموجودةِ في المناطقِ الشرقيّةِ والشماليّةِ الشرقيّة، من أنها ستصدر بياناتِها بعدَ سماعِها هذا الخطاب؛ لأنّه لايمكن وضعُ هذه الخصوصيّاتِ، أصلاً وأساساً، موضعَ النقدِ لأنها تمثّل الشعبَ، وهي لغةُ الشعبِ ومنطقُه وطريقةُ تفكيرِه، ولأن السيّدَ الرئيسَ يريد التأكيدَ على أنّه ابنُ هذا الشعبِ، لا رئيسٌ وحسب.
وهو هنا في هذا المِفصلِ الذي يخصّ قواتَ سورية الديمقراطيّة “قسد” حين لم يُردْ سيادتُه أن يسميها، إذ ذكر أنّها مجموعاتٌ مسلحةٌ فقط، قائلاً:”لن أذكرَ من هي هذه المجموعات، ولكن كما هي العادةُ، لعدةِ ساعات، أو ربما خلالَ أيام، ستصدر بياناتٌ تهاجم الخطابَ، وعندها ستعرفون من هو المقصودُ على مبدأ كادَ المريبُ أن يقولَ خذوني”. فلم يذكرها، لا لأنه لايراها وحسب، إذ هي أسُّ المشكلةِ الآن، لكن لأنه لايرى تطابقاً بينَها وبين العنوانِ الحاملة له (قوات سورية الديمقراطيّة)، ولأنه يريد لها التراجعَ عن دورِها العميل المتخاذل؛ لأنَّ من يقبلَ على نفسِه هذا الدورَ، لايُنظر إليه بعين الاعتبار، بل بعين الازدراءِ والاحتقارِ، كما تمَّ النَّظرُ إلى العملاءِ الخارجيين المسبّبينَ للحربِ (من حاملي الجنسيّة السوريّة)، لذلك يريد لها ألا تكونَ في موقفِ المقايضةِ، بل في موقفِ المقاومةِ، فيمنحُها فرصةَ التراجعِ عن دورِ العمالة؛ لاتّخاذِ الموقفِ الوطنيّ الأصيلِ الذي اتخذته فئاتُ الشعبِ المختلفة من أخوتِهم السوريين، إذ قدّموا التضحيات، وطردوا الإرهابَ، وحافظوا على السيادة، ويقول سيادتُه: “لكم اليوم الخيارُ بأن تحدّدوا ما هو حكمُ التاريخِ عليكم الذي لن يرحمكم، وسوف يقارنُ بينَكم اليوم وبين أخوتِكم من السوريين الذين أخذوا موقفاً منذ الأيامِ الأولى، وقدّموا التضحياتِ، ودافعوا عن بلدِهم، وطردوا الإرهابَ، وحافظوا على السيادة.. لكم الخيارُ أن تكونوا أسياداً على أرضِكِم، وفي وطنِكم أو عبيداً وأجراءَ عند المحتل”. فسيّدُ أرضِه هو من يدافعُ عنها، لا من يكونُ عبداً للمحتلِّ، ولهذا دعاهم السيّدُ الرئيس للانضواءِ تحتَ رايةِ الجيشِ لقتالِ العدوِّ الواحد، إذ قال:”عندما نقفُ في موقعٍ واحدٍ، وفي خندقٍ واحدٍ، ونواجهُ عدواً واحداً، ونسدّدُ باتجاهٍ واحدٍ بدلاً من أن نسدّدَ على بعضِنا البعض، عندها لن يكون هناك قلقٌ من أيِّ تهديدٍ مهما كان كبيراً وعظيماً”، وإلا فإن لم يتراجعْ عن دورِه المتخاذل والعميل، سيكونُ مصيرُه مصيرَ المجموعاتِ الأخرى، أي إلى زوالٍ.

الخطابُ بوصفِه بنيةً لغويّةً
بما أنّ الخطابَ السياسيَّ هو لغةٌ، وهو هنا، ليس بخطابٍ رئاسيٍّ سياسيٍّ وحسب، وإنّما هو خطابٌ يعبّر عن طريقةِ تفكيرٍ، وعن ثقافةٍ سياسيّةٍ واجتماعيّةٍ وفلسفيّةٍ وتاريخيّةٍ وقانونيّةٍ واستراتيجيّة. وهو خطابٌ وطنيٌّ أولاً وأخيراً، ينطلقُ من مفاهيمَ وطنيّةٍ، أولُها مفهومُ الشعبِ، وليس آخرَها مفهومُ التسامحِ والعفو.
الخطابُ بنيةٌ لغويّة لها قواعدُها وعوالمُها الخاصّة، ولها دلالاتُها ومعانيها، باعتبارِه – أيّ الخطاب- خطاباً ونصّاً في آن، وباعتبارِه لغةً ذاتَ خصوصيّةٍ ثقافيّة.
وقد تحقّقَ هذا الخطابُ عبر مستويين: الأولُ مكتوبٌ، وتمثّلَ بألفاظٍ منجزةٍ، والثاني منطوقٌ تمثَّلَ بعباراتٍ ارتجاليّة. مايعني أن هذا الخطابَ توجّه إلى متلقّين موجودين، وهم رؤساءُ المجالس المحليّة بتمثيلهم “الشعب”، وإلى متلقّين غائبين، وهم “أعداء الشعب”، مايعني أن درجةَ تأثيرِه واسعةً في نفوسِ مستمعيه كلِّهم.
وقد استخدمَ سيادتُه لغةً شفّافةً بسيطةً، توصفُ بالسهلِ الممتنعِ، لغةً تنمُّ عن مضمونِها، وتبدعُ واقعَها الخاص، بغرضِ تحقيقِ وعي أوسعَ، وبهدفِ الإشارةِ إلى أنَّ نقطةَ التوازنِ في أطرافِ هذا الخطابِ – والمتمثّلةِ بالمُرسلِ “الرئيس”، والرسالةِ “الخطاب”، والمُرسلِ إليه أو المتلقّي “الشعب”- هو القاعدةُ، وإلى أنَّ العلاقةَ مشتَركَةٌ بين القاعدةِ والقمّة. وقد أكّد السيّدُ الرئيسُ هذه العلاقةَ مراراً في أثناءِ خطابِه، وفي غيرِ موضعِ وموضوع، وفي هذا دلالةٌ على النظامِ الإيديولوجيّ الذي يقفُ الخطابُ ضمنَه، وهو الجزءُ الظاهرُ في هذا الخطاب، بينما تشكِّلُ الممارسةُ الفعليّةُ له الجزءَ المستتر، ألا وهو النظامُ الديمقراطيّ.
ولكننا هنا في ميدانِ السّياسة، وهذا الخطابُ سياسيٌّ بالدرجةِ الأُولى، فهل نبحثُ السياسةَ من خلالِ اللّغة؟! أم نبحثُ اللّغةَ من خلالِ السّياسة؟! فإن أردنا اعتمادَ الحالةِ الأولى، فهذا يعني أننا نبحثُ عن معنى الحريّةِ في السّياسة، بينما في الحالةِ الثانيةِ نبحثُ في كيفيّةِ توظيفِ الخطابِ السياسيِّ لمفهومِ الحريّةِ في اللّغة؟
والمتعارفُ عليه في تحليلِ الخطابِ السياسيِّ ونقدِه، البحثُ في موازينِ القوى بين هذه الأطرافِ، أي بين (المُرسِلِ، والرِّسالةِ، والمُرسَلِ إليه)؛ لإيجادِ ذاك التوزيعِ لهذه الموازينِ بينها، للتأكيدِ على أن العلاقةَ بين الأطرافِ الثلاثةِ هي علاقةُ قوى، بيدَ أنَّ ما طرحَه خطابُ السيد الرئيس يؤكّد أنّ هذه العلاقةَ ليست علاقةَ قوى، كما هو متعارفٌ عليه في التحليل السياسي، وإنما هي علاقةُ قوّةٍ واحدة “الشعبُ والرئيسُ” أو “الشعبُ والدولةُ”؛ لأنّ العلاقةَ بينهما ليست علاقةَ حاكمٍ ومحكومٍ، أو في علاقةِ حربٍ بين قوّتين، وتتضّح هذه العلاقةُ في الحربِ نفسِها التي تتعرّض لها الدولةُ وشعبُها من قِبلِ عدوٍ واحدٍ، والجملةُ الدالّةُ هي: “نحن ننتصرُ مع بعضِنا، لا ننتصرُ على بعضنِا” وقد تمَّ التأكيدُ على هذا المعنى في خطابِ السيّدِ الرئيسَ غيرَ مرة.
وهنا يمكننا تشبيه العلاقة التي تربط بين الشعب ورئيسه، تاريخيّاً وأدبيّاً، بتلك العلاقةِ التي تربط بينَ أبي فراسٍ وبينَ سيفِ الدولة الحمْدانيّ، وهي هنا، أي العلاقة، ليست موظفةً في اللغةِ وحسب، وإنما في العلاقةِ التي تربطُ بين القاعدةِ والقمّة. ولاننسى، في هذا المقامِ، أنّ أبا فراسٍ هو ابنُ عمِّ سيفِ الدولة، وأنّ لقبَه “أبا فراسٍ” هو مِن أسماءِ الأسدِ! وإنْ أردنا التقاطَ الدِلالةِ الأوسع في المكانِ الذي يرتبط بكلتا الشخصيّتين، فهي هنا حلب، حلبُ في ارتباطِها بسيفِ الدولة وبابن عمِّه فراس، وفي مكانتِها “عاصمةَ الدولةِ الحمْدانيّة” أي أنَّ حلبَ بوصفها جزءاً لايتجزّأ من الجغرافيا السوريّة، هي النموذجُ الأمثلُ والأجملُ للدلالاتِ والمعاني الوطنيّة كلِّها، ف”نحن أناسٌ لاتوسّط بيننا.. لنا الصدرُ دون العالمين أو القبرُ.. أعزُّ بني الدنيا وأعلى ذوي العلا …وأكرمُ من فوق الترابِ ولا فخرُ”.

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار