بقلم عبد الخالق قلعه جي
هي القصد عند أبي الطيب، وهي السبيل.. المقدسة عند صاحب رسالة الغفران (المعري).. المرتبع والقبلة عند عاشق علوة (البحتري).. المانحة العلا والظرف والأدبا (الأخطل الصغير بشارة الخوري).. وهي الوردة التي يعنو لها الصخر عند محمد قجة الذي سنمضي اليوم مع إصداره الجديد.
“حين تقرأ (حلب في كتاباته) تبحر روحك في عالم من الجمال والأصالة والحب، وترى المدينة عروساً تتحضر ليوم زفافها، بهيةً مسكونةً بعبق التاريخ وسير الأمجاد، فتعبر أسواقها القديمة معطراً بعبق الغار والطيب وصولاً إلى قلعتها الشامخة”
“حين تقرأ (حلب في كتاباته) تستحضر عشاقها وما أكثرهم، فتراهم يناجون حاضرةً لم تزدها خطوب الدهر إلا ألقاً”.
كلمات نستعيرها من تقديم شركة رحى التي ساهمت بطباعة الكتاب الموسوعة “حلب في كتاباتي وأشعاري” للباحث محمد قجة.
في معرض الإجابة على سؤاله (لماذا حلب) التي يبدأ بها تعريفه الأولي للكتاب يقول: “لأنها حلب المحروسة العظيمة.. التي رعت حياتي في مدارجها عبر السنين، بكل تقلباتها وحيويتها وسكونها، وفرحها وأساها”.
مئات من الأبحاث والمقالات والحوارات في الصحف والمجلات والإذاعة والتلفزيون إضافة إلى المحاضرات والندوات والمؤتمرات، محلياً وعربياً وعالمياً، شكلت كتاباتي حول مدينتي حلب المحروسة.
يقع الكتاب “حلب في كتاباتي وقصائدي” لمؤلفه محمد قجة في ألف ومئتي صفحة من القطع المتوسط تضم مئةً وتسعةً وثمانين نصاً توَّجها بقصائده عن حلب في الفصل الحادي عشر والأخير.
تاريخ حلب وحضارتها.. عمارة حلب وعمرانها.. حول التراث الحلبي.. قضايا مؤسسية وأخرى اجتماعية.. بين حلب ومدن أخرى وبين حلب والأندلس.. أعلام في تاريخ حلب وأعلام معاصرون.. حلب تغالب الحرب والدمار.. قصائد “محمد قجة ” عن حلب.. هي عناوين الفصول التي ضمتها دفتا الكتاب الذي صدر مؤخراً.
الفصول الأولى من هذا الكتاب تتناول تاريخ حلب، ودورها الفكري والعلمي والأدبي والفني والتجاري عبر العصور.. فصل لعمارة حلب وعمرانها وثالث للتراث الحلبي والذي يشكل الموسيقي منه الركن الأهم من موشحات وقدود.. الزوايا والتكايا وفنون حلب الأخرى وتراثها اللامادي.
حلب عاصمة الثقافة وحصادات ملونة.. أوراق من رزنامة حلب.. مهرجانات واحتفاليات، وإحياء لذكريات تكتنزنها.. دار الكتب الوطنية.. ثانوية المأمون.. ثانوية المعري.. جامعة حلب ومعهد تراثها العلمي.. جمعية العاديات وغيرها.
قضايا حلبية اجتماعية، خصها الباحث محمد قجة بالفصل الخامس من هذا الكتاب مستعرضاً الواقع الديموغرافي والاقتصادي والحياة الاجتماعية في حلب أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين.. قطوف من ذاكرة حلب الوطنية وصور من مفردات ونماذج الحياة المتفردة التي تمتاز بها المدينة وخصوصيتها.
بين حلب ومدن أخرى، عنوان الفصل السادس، والعديد من الأبحاث.. بين حلب والموصل.. من حلب إلى أصفهان.. بين حلب ودبي، وبينها وبين الإسكندرية وبيروت، فيما جاء الفصل السابع “بين حلب والأندلس” على: “صور من التأثير المتبادل.. أعلام أندلسيون في حلب.. وغيرها من الأبحاث التي تتصل بهذه العلاقة”.
في الفصل الثامن توقف الباحث الأديب محمد قجة مع عددٍ من الأعلام في تاريخ حلب.. البحتري.. الفارابي والصنوبري.. المعري.. ابن العديم وياقوت الحموي.. السهروردي وابن عربي.. جلال الدين الرومي والنسيمي وسعدي الشيرازي وغيرهم.
في الفصل ذاته، أفرد الباحث قجة عناوين تتصل بسيف الدولة والأوائل الذين اجتمعوا له في بلاطه، من مفكرين وفلاسفة وشعراء وموسيقيين وأطباء ونحويين، كـ”الفارابي وأبو الفرج الأصفهاني.. أبو فراس الحمداني وابن خالويه وكشاجم، ومالئ الدنيا وشاغل الناس”.. وحلب قصدنا وأنت السبيل لتتوج تلك الثلاثية إكليل غار في تاريخها حلب وسيف الدولة والمتنبي.
أعلام معاصرون في حلب.. أسماء كبيرة وكثيرة تضمنها الفصل التاسع من الكتاب والتي تجاوز عددها الستين، بدأها المؤلف بالكواكبي وكامل الغزي والطباخ مروراً بـ”عمر أبو ريشة ومريانا مراش والشيخ علي الدرويش ومصطفى العقاد.. صبري مدلل إحسان الشيط.. نجوى عثمان.. صباح فخري.. سليمان العيسى.. نقولا زيادة.. جمال الغيطاني.. سعد يكن.. بشير الكاتب وغيرهم”.
بكل الحزن والأسى والألم والأمل يطوف بنا الفصل العاشر من الكتاب في حلب القديمة.. يعود بنا إلى الجامع الأموي الكبير، ويكون شاهداً على دموع مئذنته التي امتدت إليها الأيدي الآثمة بالهدم والتدمير.. أسواق المدينة وصرخة غضبى.. لا تحرقوا تاريخ حلب.. حتى قلعة حلب وما طال سورها حقداً وإجراماً، لم تسلم منه أيضاً، كل المكونات المحيطة من مساجد وخانات وأسواق ومبان تاريخية.
تدمير لم تعرفه المدينة من قبل عبر تاريخها الطويل الذي كما سجل أنها ومنذ الألف الثالث قبل الميلاد دمرت ثماني مرات عدا عن الكوارث الطبيعية، فقد سجل أيضاً أن هذه المدينة كانت دائماً تنهض من تحت الركام والأنقاض، كطائر الفينيق محلقاً في سماء قلعتها التي ربضت على الجبل الأشم فروعت أعتى عداها.
إحدى عشرة قصيدة تضمنها الفصل الحادي عشر والأخير (قصائد “محمد قجة” عن حلب) بثها محبته.. شكواه ونجواه.. ألمه ويقينه بعودتها شهباء متألقة مشرقة.. يتيه بها الخلود ويباهي.
إيه شهباء.. يا هوىً في ضلوعٍ أنت فيها الهوى، أقـــام وطابــا
نغــم ينســج الأزاهيــر عِقـْداً ويصوغ اللحن الطروب انسياباً
بضعة من أسطر لعلنا استطعنا من خلالها أن نكون مع أهم العناوين التي ذهب إليها الكتاب الموسوعة حلب في كتاباتي وقصائدي لمؤلفه محمد قجة الباحث في الحضارات والتراث المولود في حلب عام 1939 رئيس جمعية العاديات.. الأمين العام لاحتفالية حلب عاصمة للثقافة 2006.. نال جائزة الدولة التقديرية عام 2016.. عمل في الحقل التربوي والإعلامي لأكثر من ثلاثين عاماً.. قدم مئات المحاضرات والأبحاث في مؤتمرات علمية ومثيلتها من المقالات واللقاءات الصحفية والبرامج الإذاعية والتلفزيونية، وله العديد من المؤلفات التي أوردها في نبذة عن المؤلف.
تعود بي الذاكرة إلى عام ألفين مقتطفاً بعض ما قدمت به إحدى حلقات اللقاء المطول الذي أجريته معه في إذاعة حلب مسكاً للختام..
كثيرةٌ هي الأوصاف والموصوفةُ واحدة.. كُثُرٌ هم العاشقون.. والمعشوقة واحدة.. حلبٌ هي الواحدة الأولى، وهي الثانية.. هم في قلبها وهي في عيونهم.. تُرى من يتحدث عن الآخر؟