بقلم عبد الخالق قلعه جي
يُجْمِع الناس في تقديم النصح – عند الحديث عن مشروع مضمون النتائج والجدوى والارباح – على رأي يشيرون من خلاله إلى أن كل ما يتعلق بالأكل والشرب، هو المشروع الأول، وربما هو المشروع الوحيد (الماشي.. هذه الأيام)
قلت له: لِمَ لَمْ تذهب إلى فتح محل لبيع الصندويش أو الكوكتيل، أو ركن اكسبريس، تبيع القهوة فيه والشاي والمتممات المرافقة، والمشروبات الساخنة الأخرى والاندومي أيضاً، وفي ذلك ربح آني وقطاف متزايد دونما انتظار، فقال:
“إن كثيراً من المحال تهتم باحتياجات الجسد من مأكل ومشرب وملبس.. المكان هنا للاهتمام بحاجات الروح.. لتغذيتها.. اقرأ.. الكلمة الأولى في الكتاب الكريم، فالأصل بروح الإنسان ولروحه…
ليس الربح المادي هو المقصد ولا الغاية.. إنما استعادة الحالة الثقافية العامة والاستمرار بها في حلب، هذه المدينة المتفردة بتراثها الغنية بموروثها الحضاري والتاريخي وأوجه حياتها المعاصرة، والرسالة هي عندما تغلق المدن مكتباتها.. حلب تفتح مكتبة”… هكذا أجابني صاحبها.
أعمدة منها ورفوف طابقية متراصة، وعناوين لمجلدات وموسوعات ومجموعات ودواوين وكتب في الفكر والفلسفة والتاريخ والأدب والثقافة ودوريات.. صحف تغطي الجدران ومجلات متنوعة.. للجميع.. وتان تان وأسامة حاضرة فيها.. سحرٌ لرائحة حبرٍ و ورقٍ وعبق.
في الركن اللائق يتربع جهاز الراديو.. ذاكرة للناس وذكريات وأيام خوالٍ، مازال فيها يتردد، ذلك الصوت الموشى بضجيج الشوق حيث تحلقوا ذات دفءٍ.. باكراً مستيقظين منتظرين شارة افتتاح إذاعة دمشق.. يعلنها كل يوم بُزُقْ محمد عبد الكريم لتبدأ رحلة الصباحات والحياة.
الفونوغراف وأسطوانات للموسيقا العالمية.. “القَدَر يقرع بابي” السيمفونية الخامسة.. رفقاً بنا “بيتهوفن”.. مختارات من الغناء العربي لمعلِّميه وأعلامه وعدد من معاصريه.. الشيخ سيد درويش وأدواره الخالدات.. ضيعت مستقبل حياتي.. أنا هويت وأنا عشقت.. كوكب الشرق أم كلثوم وتسجيل حي لرائعة رامي والسنباطي غلبت أصالح في روحي.. موعود والعندليب عبد الحليم.. هُوَّ الحب لِعبةْ.. مستنكرةً تتساءل عزيزة جلال.
مكتبة للكتب النادرة والقديمة والأخرى من غير الإصدارات الحديثة، تضم حوالي خمسة آلاف كتاب والتي قد تلبي بشكل نسبي حاجة القارئ إلى بعض العناوين حسب رغبة أو تخصص أو حسب شريحة عمرية.
في مكتبة دار الوثائق الورقية، يمكنك اقتناء الكتب أو المجلات أو الموجودات الأخرى شراءً أو استعارة، كما يمكنك أيضاً أن تقدم الكتب هديةً باسمك أو بالأمانة لأصحابها، ما يرفع رصيد فهرس عناوين الكتب التي تضمها.
لعل افتتاح المكتبة هذه يأتي ليعيد بعض التوازن إلى الروح التي هدَّها الفقد في معظمها للمكتبات التي عرفتها حلب وأضحت معالم راسخة في ذاكرتها.. مكتبات الأصمعي.. عجان الحديد.. دار الفجر.. عبد السميع عفش.. مكتبة استانبولي.. الكندي.. دار التراث.. مكتبة سعيد.. دار ربيع.. وغيرها وغيرها.
الحديث عن المكتبات والكتب يعود بنا إلى عام ألف وسبعمئة وأربعة حيث المطبعة الأولى في الشرق التي استوردها أثناسيوس الدباس إلى حلب من رومانيا ومعها بدأ إنشاء المكتبات فكانت المكتبة المارونية التي أسسها العلامة المطران جرمانوس فرحات، والمكتبة الأحمدية نسبة إلى مؤسسها القاضي أحمد الشهير بالحلبي عام ألف وسبعمئة واثنين وسبعين والتي ضمت أكثر من ثلاثة آلاف كتاب معظمها مخطوط.
ريادة حلب ومكانتها الأدبية جاءت أيضاً بفعل عوامل كثيرة اجتمعت عبر العصور فكان لها من الأعلام والأسماء الكبيرة التي عرفتها هذي المدينة من مفكرين ومؤرخين وباحثين وأدباء وشعراء وكتاب، وكانت هذه المكتبات العامة والخاصة والعائلية التي ازدهرت بفضل حب الحلبيين للقراءة وولعهم باقتناء الكتب.. تقول ذلك ما تعرف “بالكتبية” في البيوت الحلبية.
اليوم تقوم دار الوثائق الورقية في شارع القوتلي الذي كاد أن يكون خاوٍ على عروشه من معالمه الرئيسية التي انكفأت أو تضررت بفعل الإرهاب وزلزال شباط الماضي.. سينما الكندي.. سينما حلب وبقايا في الزاوية المقابلة تهمس بأسى كانت هنا سينما فؤاد.. وكانت هناك أبنية في بداية هذا الشارع أو أخرى وعدد من فنادق في شارع بارون المتعامد معه.. غيض من فيض، لا الحصر.. إنما على سبيل المثال.
القول بأهمية التراث لا يعني الاكتفاء بتوثيقه فقط.. إن كان هذا يتم من جديد.. بل يعني الحفاظ عليه بكل مكوناته ورموزه وهويته الأثرية والمعمارية ومفردات ذاكرته المكانية والإنسانية، ما يتطلب عملاً حقيقياً نبيلاً يزيح غبار كسل ويوقظ عميق سبات وينهي لامبالاة وتقصيراً.
عاتبةٌ علينا حجارة هذي المدينة التي نحن، أمام الضمير والتاريخ، مؤتمنون عليها محبةً أكثر وفعلاً يمسح عنها ماء حزن.. يعيد إليها بعض بهاء ونضارة وشهباء.. عساها تقبلنا فنكون برَرَةً مرضيين أو لا نكون في خانة العاقين الجاحدين وذلك أضعف الإيمان.