بيانكا ماضية
في كتاب “الأصول التور*اتية للعنف اليهو*دي” للدكتور عبد الغني عماد، يشير إلى أن العــنف لم يكن إلا أداة من أدوات الاستراتيجية الصهيو*نية، وهو ليس رد فعل على أحداث استهدفت مصالح اليهو*د في تاريخ المشروع الصهيو*ني بقدر ما أصبح فلسفة وأيديولوجيا تشكل أحـد المرتكـزات الأساسية للشخصية اليهو*دية.
إن جذور الروح العدو*انية والترعة الإر*هابية والسلوك العنــفي عند الصها*ينة، تعود في مراحل تكوينـها إلى مرحلة الشتات مروراً بمرحلة الجيتو انتهاء بمرحلة الصهيو*نية. في كل تلك المراحل كانت أيديولوجيا العنـــف والعدوان تتأصل وتنضج وتتصلب لتصبح جزءاً مـن النـسيج التكـويني والمعرفي للشخصية اليهود*ية والصهيو*نية.
يستند اليهو*د في ديانتهم إلى مرجعين أساسيين، الأول هو التـور*اة الـذي يعـرف بـ”التاناخ”، ويعرف أيضاً بالعهد القديم لتميّزه عن العهد الجديد (الإنجيل). أما المصدر الثاني، فهو “التلمو*د”، ومعناه التعاليم، ويشتمل على مجموع الشرائع اليهو*دية وشروح وتعليقـات علـى التو*راة، وضعها علماء اليهو*د الأحبار والحاخامون بعد المسيح، أي في فترة الأسر البابلي (586 – 539 ق.م)؛ أي بعد عصر النبي موسى عليه السلام بحوالي 800 عام. وهؤلاء صاغوا ديانة وضعوا فيها أفضل نتاجهم الفكري بما يخدم هدفهم الأساسي بالعودة والانتقام عن طريـق تثبيـت عقيـدة الأرض الموعودة، فبنوا عليها سنناً وآداباً صارت على مـر الزمن محل تقديس عند اليهو*د.
قامت السيدة فرانسواز سميث بدراسة دقيقة حول هذا الموضوع وقالت: “إن البحث التاريخي الحديث قد رد إلى مجرد الوهم تلك التصورات الدقيقة عن الخروج من مصر وغزو بلاد كنعـان والوحدة القومية الإسر*ائيلية قبل المنفى والحدود الدقيقة .إن الوصف التاريخي التور*اتي لا يعلمنا عمـا يرويه شيئاً، لكن يعلمنا أشياء وأشياء عن الذين صنعوه” .
ولقد ثبت من خلال الدراسات المقارنة أن ما ورد في هذه التوراة من شرائع وتقاليد وطقـوس دينيـة تقتبس كلياً من الشرائع الكنعانية والبابلية، فجميع الأعياد، عدا الفصح، والأسماء التي أطلقها كتبـة الأسفار على أبطال قصصهم هي في الأصل أسماء كنعانية .
وما ورد من قصص الحرب وتعاليمها الخاصة التي تأمر بقتل الاطفال والنساء والشيوخ وحتى البهائم، بل وبإحراق المدن وأهلها أمر لا يمكن التصديق بأنه يعود إلى دين سماوي. وقد جاء في القرآن الكريم أكثر من إشارة وتحذير لبني إسرائيل من مغبة هـذه التعاليم التي أحلّوها في كتبهم وقالوا هذا من عند االله: “من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً “. وكذلك جاء في الآية 79 من سورة البقرة :” فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا مـن عنـد االله ليشتروا به ثمناً قليلاً فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون” .
أما عبارة القتل والإفناء والاستئصال التي تتكرر في الأسفار التو*راتية عند كل حديث عن قتال أو احتلال لمدينة وقرية. وليس غريباً أن يعمد الصها*ينة إلى التذكير الدائم بهذه الوقائع وتصويرها على أنها بطولات يمكن استعادتها بقالب عصري وحديث، بل ويجري تلقينها للأطفال، ليس كأساطير، بل كوقائع وكتاريخ يجب تمثّله والاستفادة من عبره ودروسه .
إذ جاء في التلمود أن قتل غير اليهودي لا يعتبر جريمة عند اليهود، بل فعل يرضي االله وجاء أيضاً :” اقتل الصالح من غير الإسر*ائيليين، ومحرم على اليهو*دي أن ينجي أحداً من باقي الأمم من هلاك ، أو يخرجه من حفرة يقع فيها؛ لأنه بذلك يكون قد حفظ حياة أحد الوثنيين “. وجاء في موضع آخر “من العدل أن يقتل اليهو*دي بيده كل كافر؛ لأن من يســـفك دم الكافر كمن يقدّم قرباناً إلى االله”. وجاء أيضاً :”إن من يقتــــــل مسيحياً أو أجنبياً أو وثنياً يكافأ بالخلود في الفردوس والجلوس هناك في “السراي الرابعة”. أما من قتل يهو*ديـاً فكأنه قتل الناس أجمع. ومن تسبب في خلاص يهو*دي، فكأنه خلص الدنيا بأسرها”.
وكثيرون من الباحثين والمختصين بأساطير الصهيونية ومعتقداتها، توقفوا عند الأساس الديني الذي لفقوه في تور*اتهم لأجل السيطرة على أرض فلسطين وقتل كل من ليس يهو*دياً، وفنّدوا هذه الأساطير المستندة إليه، وذلك من نصوص التو*راة نفسها، ومنهم الدكتور أحمد شحلان في كتابه “اليهود المغاربة: من منبت الأصول إلى رياح الفرقة”، إذ قام بتفنيد أساطير الصهيو*نية التي استندت إليه، على الوجه التالي: أولاً، إنَّ فلسطين ليست مهبط الديانة اليهودية. فاليهودية بدأت مع النبي موسى (ع) عندما تجلّى له الربُّ، طبقاً للتوراة نفسها. فقد ورد في سفر الخروج 3 /1ـ2:’أمّا موسى فكان يرعى غنم حميه يثرون كاهن مدين. فقاد الغنم إلى ما وراء الطرف الأقصى من الصحراء، حتى جاء إلى حوريب، جبل الله. وهنا تجلّى له ملاك الربّ بلهيب نار وسط عليقة.’ومدين ليست في فلسطين، وإنَّما في صحراء سيناء، كما هو واضح من النصّ أعلاه. وقد توفّي موسى ولم يدخل أرض فلسطين مطلقاً، كما هو واضح من سفر التثنية، الإصحاح 34 / 4 ـ 5:’وقال له الربّ: هذه الأرض التي أقسمتُ لإبراهيم وإسحاق ويعقوب إنني سأهبها لذريتهم، قد جعلتك تراها بعينيك، ولكنّكَ إليها لن تعبر. فمات موسى عبد الرب في أرض مؤآب…’ ثانياً، إن الربّ لم يعِد اليهود بأرض فلسطين، وإنما طبقاً لتوراتهم، وعد إبراهيم ونسله كذلك. والوعد طبقاً للتوراة لا يشمل فلسطين فقط، وإنما أرضاً أوسعَ منها بكثير، فقد ورد في سفر التكوين، الإصحاح 15 / 18: ’سأعطي نسلكَ هذه الأرض من وادي العريش إلى النهر الكبير نهر الفرات..’ ومعروفٌ أنَّ لإبراهيم ولدَيْن هما: إسماعيل وإسحاق، ويتكوَّن نسله ممن خلَّفه ولداه، كما هو واضحٌ من سفر التكوين، الإصحاح 15 / 3 ـ 4: ’وقال إبرام أَيضاً: إنك لم تعطني نسلاً. وها هو عبدٌ مولودٌ في بيتي يكون وارثي. فأجابه الربّ: لن يكون هذا وريثاً، بل الذي يخرج من صلبك يكون وريثك.’وإسماعيل هو من صلب إبراهيم، فهو من نسله ووريثه كذلك. ثالثاً، إنَّ القول بأن جميع اليهو*د ينتسبون في الأصل إلى أرض فلسطين، مخالفةٌ صارخةٌ لكل الوقائع التاريخية، سواء تلك التي وردت في التاريخ العام أو في العهد القديم ذاته. فالعبر*انيون ـ وهم من قبيلة سامية (عروبية) عبرت نهر الفرات، بعد أن غادر جدّهم إبراهيم بن عابر بلده أور البابلية التي ولد فيها، واتّجه إلى مصر، واستقر في جاسان التي تقع في دلتا النيل شمالي مصر ـ هم الذين أُطلق عليهم فيما بعد اسم اليهو*د السفردين. أمّا اليهود الأشكيناز، وهم المسيطرون على الأمور في إسر*ائيل اليوم، فهم ليسوا من هؤلاء العبرانيين، وإنّما في الأصل من الخزر الذين سكنوا بلاد القوقاز بين بحر قزوين والبحر الأسود، جنوبي روسيا الحالية. وقد تهوّدوا في القرن الثامن الميلادي. فهم لا علاقة تاريخية لهم تربطهم بفلسطين مطلقاً. أمّا وجود ضريح إبراهيم الخليل في فلسطين، فسببه أنَّ الرجل استقرّ فيها في أواخر حياته بمفرده، إذ بقي حفيده يعقوب في جاسان المصرية مع ولده يوسف. ولم يكُن إبراهيم يهوديّاً؛ لأنَّ اليهودية بدأت مع النبي موسى الذي هو من نسل إبراهيم، كما بدأ الإسلام مع النبي محمد الذي هو من نسل إبراهيم كذلك. رابعاً، إنَّ الادعاء بأنّ ‘قانون العودة’ في إسر*ائيل هو تصحيح لفعل الملك البابلي نبوخذ نصر الذي أجلى اليهود من فلسطين إلى بابل سنة 586 ق.م، فإنه ادعاء متهافت، لسببين، كما تذكر التوراة: تشير التوراة إلى أن الملك الفارسي كورس (الذي احتل بابل سنة 539 ق.م.) قد سمح بعودة اليهود من بابل إلى فلسطين. وواضح أن جلاء اليهود من فلسطين آنذاك لم يشمل الأشكيناز، لأنهَّم لم يكونوا يهوداً ولم يكونوا في فلسطين آنذاك، وإنما كانوا في أوروـ آسيا، ولم يتهوّدوا حتى القرن الثامن الميلادي، كما ذكرنا. وإذا قيل إن ‘قانون العودة’ هو تصحيح لفعل الإمبراطور الروماني طيطوس الذي حاصر القدس ودمَّر هيكل اليهود سنة 70م، فإن الخليفة عمر بن الخطاب عندما دخل القدس سنة 15هـ / 636م قد أعطى ‘العهدة العمرية’ للمسيحيين ضامناً لهم الحرية في ممارسة عقائدهم، وأعطى الأمان لليهود وسمح لمن أُبعِد منهم عن فلسطين بالعودة إليها.
إلاّ أنّ هذه الأساطير الدينية للصهيونية بأنّ فلسطين هي (أرض الميعاد)، واليهود هم (شعب الله المختار)، وأنّ القدس في أدبياتهم هي (مركز تلك الأرض)، وأنها (عاصمة الآباء والأجداد)، وأنها (مدينة يهودية بالكامل) يُبطلها بالكامل عالمُ الآثار الإسرائيلي الشهير (إسرائيل فنكلشتاين) من جامعة تل أبيب بنفيه وجود أيّ صلةٍ لليهود بالقدس، وأكّد في تقرير نُشر بتاريخ 5 تموز 2011م (أنّ علماء الآثار اليهود لم يعثروا على شواهد تاريخية أو أثرية تدعم بعض القصص الواردة في التوراة..)، والأكثر من ذلك فإنه يشكك في قصة داوود، وهي الشخصية التوراتية الأكثر ارتباطاً بالقدس حسب معتقدات اليهود، موضحًا أنه: (لا يوجد أساسٌ أو شاهدُ إثبات تاريخي على وجود هذا الملك الذي اتخذ من القدس عاصمة له..)، مؤكداً (أنّ شخصية داوود كزعيمٍ يحظى بتكريم كبير لأنه وَحّد مملكتي يهودَا وإسرائيل هو مجرد وَهْم وخيال لم يكن له وجودٌ حقيقي.)، و(أنّ ما يتعلق بهيكل سليمان، لا يوجد أيُّ شاهدٍ أثري يدلّ على أنه كان موجودًا بالفعل.). ويقول المؤرّخ اليهودي (شلومو ساند) في كتابه (كيف اختُلق الشعب اليهودي؟) إنّ القومية اليهو*دية خرافة، وإنّ اليهو*د الذين يعيشون اليوم في (إسر*ائيل) ليسوا على الإطلاق أحفاد (الشّعب العتيق) الذي عاش في مملكة يهو*دا، وأنّ اليهو*د لم يُطرَدوا من الأراضي المقدّسة، ومعظم يهو*د اليوم ليست لهم أيّ أصول عرقية في فلسطين التاريخية.
ويرى المفكر اليهودي الفرنسي (جاكوب كوهين): (أنّ المحر*قة ذريعة اتخذها الصها*ينة لجلب اليهود إلى فلسطين، لأن الصهيو*نية كأيديولوجية سياسية كانت منبوذة من قبل 99% من الحاخامات المتدينين، فضلاً عن وجود نصّ ديني يقول بأنه ممنوع على اليهو*د المتديّنين الهجرة جماعات إلى فلسطين إلاّ بعد عودة المسيح)، إلاّ أنّ المحر*قة اعتُبرت حدثًا مقدَّسًا أسهم في شرعنة تأسيس إسرا*ئيل، ورفَع المنع الدّيني من هجرة المتدينين إليها. أمّا من الناحية السياسية المعاصرة فلم تكن هناك دولةٌ تسمّى إسر*ائيل إلاّ في بداية ذلك الحُلم الشيطاني لمؤسّس الصهيو*نية (تيودور هرتزل) يوم 03 آذار 1897م حين قال: (في مدينة بازل فكّرت في دولة اليهو*د، لو قلت هذه الفكرة بصوتٍ عالٍ اليوم لقُوبِلت باستهزاءٍ عالمي.. في غضون خمس سنوات، ربما خمسين سنة سيستوعب كلُّ الناس هذه الفكرة.)، وفعلاً بعد 50 سنة أي سنة 1948م تمّ الاعتراف بهذا الكيان الغريب كدولةٍ في الأمم المتحدة! فأين هو العقل الواعي والضّمير الإنساني الذي يقبل بقيام دولةٍ على أنقاض أساطير دينية وسياسية وهمية؟.