الحب الصوفيّ ووعد الماء

 

الجماهير.. محمد جمعة حمادة

سمّي القلب قلباً لأنه يتقلّب ولا يثبت على حال، وفي هذا القول شيءٌ من الحقيقة، فقلب الشاعر كالفراشة ينتقل من زهرة فوّاحة إلى زهرة عطرة، لتنشق منها الطيب، وتنعم بالجمال الطبيعي الخلّاب، الذي شاء الله أن يمنع به الإنسان عينه وقلبه وإحساسه وذوقه.
ومنى في ديوانها “قلبي فراشة الحقل”، الصادر عن دار بعل بدمشق عام 2018، حسبنا أن نقرأ رحلة قلبها ونقف أمام بعض قصائدها: قصيدة “أصبوحة” فيها التأمّل والفلسفة، زهرة العبّاد هي الشاعرة وقد أفاقت وتمطّت من نوم الانقياد لإرادات أخرى، يقال إنّ العمر سرق الناس لكنّه لم يسرقها، بل زاد في غلّتها بعد حساب دخلها وخرجها وبعد التبديد هناك من يرتق ألا وهي التجربة المعاشة، تغليب الأبيض على الأسود ورؤية الممتلئ من الكأس وتجيير المصاعب الحياتية لصالحها فلكلّ أمر مؤلم جانبه المريح، ولكل مصيبة حكمتها، لكن يكفي أن تمدّ يدك لتتمسك بالنور الإلهي المنبعث من القلب، من أمسكه فقد اهتدى، ومن أخطأه فقد ضلّ. إنّها راضية لم تسلبها الحياة شيئاً بل زادتها عطاء “ما ضاع خيط لا ما ضاعت قشة.. فتشت الجيب أعدّ الدخل، أعدّ الخرج، ثمّة من دسّ الفرحة في العبّ وزاد غلال، من أين يجيء الزود، وقد بددن بغير حساب، ثمّ من يرتق، من يرفو ما طرّ من أهداب.. ثمّ من يرعى، هناك العين وحروز توفّي” أصبوحة، ص8-9
“يا الله من يشطرني مالي في الهجس.. من يعطيني فوق الطاقة!.” ص10
مدّت يدها كطفل تقرع كأس المعنى.. تحاول نحت الكلمات.. تخجل من حقّها وتبتسم.
وفي قصيدة “أخاف..”، نجدها “خائفة أن يفوتها موكب العطر.. منى تخاف في عمرها دون حضور الآخر فيها، تتبدّد ذرّاً، طحناً، كطفل يحتاج العثرة كيما يقوى/ الدمع يصعب جمعه.. عنّي يا الله أكاد لا أقوى، وبصدري عصفور الخوف”. ص 13.
سأفعل مثل بلقيس أرفع ثوبي عن ساقي.. عن المرايا كي لا تتبلّل بالماء. هل يمكن لك أن تشرب الماء دون أن تبلل كفّيك به؟لن تعبر مضائق الدهشة ولن تكرر معه متخلصة من قرون الحياة المناطحة المعادية. تحبّ، لكن تخاف الوقوع.
وفي قصيدة “أرجوحة”، تعود إليه وهي لم تفارقه وإن ظلمها، فليزد اللوم وليذمّها. تعلم أنها جاءت حياة لم ترحب بها، يكفيها العذاب: “أنا ما جئت لألاقى بالترحاب، أنا يكفيني العذاب أحسن إليّ وعذبني” ص14.
تعلم ما ينتظرها ثابتة القدم، عاقدة العزم.. تكتب له كل يوم وهو ملهب نحو أطرها.. له الآهة.. له الدمعة.. وتبكي.. لكن البكاء منه وله يزيدها جمالاً.
هي القصيدة الأرجوحة التي تنوس بين الماضي والحاضر والمستقبل.. كما الصفصافة الشجرة تنحني فوق الماء وهي خجلى من حقها.. من سرّها.
ونجدها في قصيدة “أميمة هل تستعاد”، طفلة الزمان والمكان، قبل أن يندلع حريق الكون، قبل اللغة الهمهمة، أزهر شلالها لباب لجوئه عندها ما يكفي لأنّ تكون “أميمةٌ..” صورٌ تترى تنداح لينابيع، مؤونة انتظاره من زبيب وجوز ومشمش، حيث المواظبة والثبور والقمح لتروي علساً والعلس قمح يمنيّ في قشرة كلّ سنبلة حبتين من الحنطة وليس حبّة واحدة كما عندنا بعد سبعين من السنين لا زالت تمور حبّاً يتوق لمن يغترف منه مطففاً، منقصاً. وهي خجلى من عطرها، تفرغ جام شوقها في خيوط وإبر وسنانير نسيج.
تخاف ممّا يعتريها مستنجدة بالله فتمرق في عين خواطرها أسراب أوز، غزلان، سماء تمطر قمحاً وعصافير، لم تمهلها الفرصة حتى دقت مؤذنة برحيل، لمراتع ثم، طالت توقاً للغيا، مُذ كانت قمطاً فوق مهاد”. ص27.
تفتح ذراعيها طفلة ترقب دولاب الفرح الدوّار بشعر متطاير وهي تعدو، ثمّة عرس ينتظرها وهناك طعام، لبن رائب وزغاريد، تعدو حافية فوق الحصى المسنون لا تهتمّ للدماء التي تفصّد من قدميها، لتزهر ملونة الأبيض، الأحمر، الأصفر، من دمها.
مثل نبتة ضعيفة، كالخامة تتمايل نشوى لكنها مثقلة غيماً معطّراً وحمامٌ، تبكي فرحاً وهي تعدو لعرسها تدعو الله أن يهديها الطريق الصواب وبعينها.
ينتابها الدوار وهي طفلة تعدو لمصير، تدعو الله ألا تتعثر فهي بعمر الكون لا زالت تحبو على أربع اغتنمت فرصة لتطير بعيداً بغير جناح سوى جنح الخيال لتجد بيتها الخاص، لتأمن شرّ الغربة، بيت أمها ليس بيتها وهي تحنّ للأطفال، لإنجابهم، يمرّ الوقت مبطئاً واللحظة دهر، لتجد أنّ البيت الجديد سقفه يدلف دمعاً مرّاً.
“سقفٌ يدلف دمعاً، كالدفلى طعماً، يدلف غلباً وعقاقير لأنها أخذت تحت هذا السقف خمسة وعشرين عاماً دواءً للكآبة لزواج دام خمسين سنة (خمس ينابيع) سقف بيت لا يدلف حباً، يدلف مغالبة ومصارعة، وأدوية للكآبة، عقاقير.
كانت الأقدار أقوى منها رغم قوى روحها الخفية في صدرها، والزوج يهيل غبار النزاع والخوف زوبعة يثار وكوب الرجفة والخوف يدار.
لم تفهم ماذا يدور، لماذا نتراجع أمام الأعتى؟ لماذا تداس الزهور؟ أمواه الشوق الطائلة للحياة تسيل فوق الأرض مهدورة في منهدمٍ من الأرض يزهر بالقهر والأقاويل. قد جاءت ملأىً بالمطر والوعد تروم الحب، البيت، الأولاد، الأمن، التعويض عن الأم، ليكمل زوجها، قرنها مسيرة أمها التي فرّت من بيتها إلى بيت الزواج، ظانةً أنه الحنوّ والجنو والدنوّ وهي لا زالت هذا الحمل الذي ينشد السلام لينام تصلي لتحظى بالنوم، لكن النوم لا يحصل إلا بالعقاقير.
من سبعة عقود من خمر وجمر لا زال يجوف الصدر مضض دبق، مرٌّ كالدفلى، يثوي مختبئاً في تلافيف الذاكرة تلجأ له، لقصبات صدره الجوفاء العامرة بالأمان والعمر يجري بنهبها. يمّها غفلٌ، عطلٌ عن التزيين والكذب لا مداهنة لا غش، عين الشعر هي الراح لحكايات سالفة، أنخابٌ عدّة لروح غير قليل من العمر، مثل ظبيّ تطارد أخيلة الشعر وعرائسه، متوهمة لقاءه بعد مضيّ السبعين، تندلع اللهفة له حتى الخوف، الخرع، غبار الزمن يرين، كان القشة، كان حبل العروط الذي يتشبث به غريق.
يضجّ صدرها، لا زالت فضلةٌ في كأس شبابها، وعت الحرف، لهمته رغيفاً بذات مجاعة، تصبر مترقبة صلاة في قدسٍ لتنعم بسلام وتضام، حوصلتها ملأى بالضياع، لتغني لجياع الجوف الصدري للحب ولجياع الأحشاء، لخبزٍ وأُدْمٍ تقتاته ليجيب عن أسئلتها القاطنة فلاة لفيئه، لاسمه وفيه العين وراء الرعشة والميم، ثمة عرمات حصاد وغلال جادت بها المخيلة على شكل قبل تشهتها من قبلته من جانحيه منسكبة، لتقرّ وثبات ليلها آمنةً.
وهي برفقة خيالها المريض، تلقي رأسها للخلف، تغمض العين، ما يعادل تدخين لفافة تبغ من الوقت، لعل القصيدة توافيها، هي من وحيه، لن يضيع أحد كلمة في قصيدتها البكر، لا لن يمسّ قصيدتها أحد، حتى لا لهمزة استفهام أو الدعوة للحبّ كما في قصيدة (أفاطمُ) كيف تردّ هداياه المائعة المشمشية اللون وقد أرادتها بلون شاكرة البصيرة بلون نيليّ حالم.
تغريها القصيدة، تصدّها، قد وضعت كل آمالها بها من صدر، يمور بحراً ملهماً لما يشيخ بعد موجه السابع المرتدّ على الصخور، قد تأخرت الفاتنة، تواعد، تخلف الوعد تبتعد، تدنو، تكاد تنال من عطرها الرجراج الزئبقيّ.
لن تبيدها صحراء الحياة ما دامت القصيدة في البال، تشرع في بناء صدرها الناهض بمد ماكٍ أوّلٍ، بعمود لخيمة شعرها خمسة مرابط، أوتاد، تصخب ريقاً بارداً. كلا لم يكن السراب مخادعاً بما يكفي، وكانت الطاعة للنواهي والأوامر لعدم الحب .
وهي في “تراتيل الورد”، امرأة بحار كل مغرب شمس تنتظر سفينة تقلّ رجلها.. شمعة دربها.. ما ظنت أن الحب مذنب.. تصورته نسمة هواء منعشة.. لكنه بغير موطنه “الحب بغير سهول.. آجل عيد أل.. عنقودٌ عن مبسمه ضلّ.. يلوب ويظعي الكلّ.. تبصاوير اللامعقول.. كم أشقى العقل العقل” ص44 “ترجوه العودة قبل جفاف دنانها.. ليزرعا الشوق زنابق.. ليمسكا بتلابيب الأغنية من سابع ذراها.. تدعوه لعدم الحزن كلٌّ يبكي حصاد خضوع.. فرحاً ألماً.. ويضجّ قوادم وحواصيلا”. ص45.
تعال لنرقب قمر الظهيرة ونجومها.. تدعوه ليجد لا الشمس بأصابع آذاها القهر وعقابيله.. كونها يرتقي سلماً صوب سماء.. دخانٌ يلولب فيها وأقاويلٌ عن نشوئها تزاحم مناكب العشق.. تتهادى الغيم مثل لقمة الجوع.. هذا الجوع الذي (يفتح صدراً للطعنات.. واغر جرح آليناه وسعاً.. منداحاً بفعل حصاة.. حصاة الشك عن عمدٍ ملقاة.. الكوثر حلقوم غصّ بماء.. وفؤاد يحجل بغير حجاب” ص46. حلقومنا يغصّ بماء.. وبوّاب المعدة العلوي (الفؤاد) يمشي على قدم واحدة كما الحجل بدون حجاب حاجز بين الجهازين التنفسي والهضمي.. تدعوه ليمحو القهر الذي طال أعنّه الرقاب.. ما ضاعت كلماته ليوم الحشر.. وهي تنتظر تطوف الغبطة حولها.. تيجان من زهور.. والدنيا فتاة أحلام تروح وتجيء كما النوّاس.. لكنها تعرفه يعيش نفسه.. لا يعدّلها.. فهو جافٍ جفوة الصبر المرّ.. رغم إنه تربى في رحم مزهر من دم.. إن جاء.. إن حضر.. لن يجحدا.
وفي قصيدة “جار”، وهو جارٌ وهمي ربّما هو مفترضٌ لبيت جدتها في مدينة الباب فقد كان لدى الجدة جارة باغية معتدية.. تضع حجراً تحت قدميها وتمتطي الحائط لتنقلب لبيت الجدة تشبعها ضرباً ثم تعود بنفس الحائط منقلبة فوقه لجارها.. هذا الجار لم يحم الجدّة من العدوان الجواري.. خطر ببالها وقد رأت معظم أرض دار الجارة.. فكرت: ما ضرّ لو كان في الدارين شاب وفتاة يتبادلان القبل بدل العدوان.. غير مفرّق بينهما هذا الجدار القصير البنيان.. ورأت بعين الخيال فتاة تقف على رؤوس أصابع قدميها.. كيما تطال قامة ابن الجيران وهي تبادله القطف والعطف والعزف.. وبرغم هذا الجدار.. فليكن عاملاً مساعداً للحب وليس للحرب.
وفي “داوِ جرحنا كي لا يتسع”، ودائماً الشيء بالشيء يذكر “ونحن نتقاطف الشوق”، وهما يقطفان الشوق والوعد، كان يكايدها بإحداهنّ..، هي لم تغضب.. لكنها بكت.. لا زالت تحوك بإبرتها مخرمات موشاة بطيور.. فراشات.. عناكب.. تغزل وتغرق في زهر الحياكة.. لتموّه رؤية الآخرين لهما.. لا يكف عن مكايدتها بأخرى.. وهي لا تريد غلابه، ولا تريده مغلبها.. تريد أن تصلي للخبز الثاوي في صدرها الثرّ الذي يختصر الكون في بذرة.. نواة البدر الأزليّ.. حيث صهيله وهزيم رعوده، وضجيجه الموعود.
تدلّه هذا الكون حتى غياب العقل.. لكن منديله يهمي بكاءً للخيبات.

. والعمر يحفل بمناديل اللهفة أيضاً، وهو لا يفتأ يدسّ إصبعه عميقاً في جرحهما حتى يتسع حتى الدهشة.. وهما يركضان غريمان يصطرعان.. هذا المنديل المصارع سرق عمره قبل أن يسرق عمرها.. وهو غير دارٍ بهذا.. وفي التذكار لا أقفال للقلب.. تتفتح تيجان الزهر وأذيناته.. تنور الخلق ملتهب ويطرح الحب على شكل أرغفة تشبه وجوه الأطفال المحببة.. هو الحب الذي لم يخرج قبل الأوان فوق رمال التنور الحارّة.. وهو ذاهلٌ إلا للعراك.. حبذا لو ناما واللقمة في الأفواه كالأطفال.. ناما تعباً.. وصوتك نهر الرقراق يجري حباً لكنهما يجريان نحو خواتيم غير مبهجةٍ.. نسيا الجمر والاحتراق وما أنشدا.. لم يغنيا الأغنية التي ولدا من أجلها.
وفي “ذوب فؤاد”، يبدو الصراع بين أن تغترف حقها بالحياة.. كما الجميع يفعل. وبين الابتعاد عنه والوقوف متفرجةً.. حين يحمى وطيس الرقص.. يتسمّر كلّ الظنّ.. يفلت العقل من عقاله.. ويحزّ خصر الزهرة شواظٌ من مدد النار.. بصعوبة التعبير طار حرير العقل.. تهادى يرشف ريق التغابن والتصافي والتصالح مع الذات.. قد دخلت بيت القلب بيت القصب في الصدر.. لتنفخ الروح في أشرعته وقلوعه.. تعينه بشهيق وزفير.. إذ قبلاً لم تكن تتنفس.. وقد حباها الله أغنيات شتى.. إذ ابتدرت غناءها ترسل أشعة الشمس قُبلاً.. الليل يخفي قمره حتى يكون الخلق في العتم.. في ظلمةٍ.. يجنّ صدر الأرض.. من دقّ الخطوِ الراقص.. يتفجر الحب أمواهاً.. تغرق اللاحب.. تغرق وفي الحب الموارب بابه.. رغم كل الحيطة والحذر منه.. وتكون هي المرأة.. كمن تفتري على نفسها.. بلا رادع أو حدود”.. “وكنت امرأةً كما الافتراء ودود بلا رادع أو حدود” امتلأت مكاييل الحب بالحنطة.. بالوعد والرغبة تشف من نضيد الأسنان.. جامٌ مليء زبيباً.. زيتاً ودقيقاً.. كل ما في الكون ترّهات عدا هذا الساعة البدئية لاندلاع الكون هناك الحب يتجلى بالقمر العطش يتحوّطها.. لون هواءها بلون الزعفران الأصفر متعمّداً.. لكنّ الشاعرة تستحي من عطرها.. من الأغنية أن تغنيها.. هي طفلة تتعلّم المشي حديثاً.. تتعثّر في مشيتها ثم تنهض.. ويحدث مثل هذا كثيراً للحظات عند إغماضها لعينيها.. دون أن يحسّ بهذا أحد.. ولاذ الحبّ بالصمت الذي يقول ويجأر.. بأنه بالإمكان إتيانه.. ناقص كونٌ بدونه.. لكن الوعد الممطول لم يعد يحتمل مرونة المماطلة.. هذا الوعد الذي يحاول إغواء امرأة لا تغار من أحد.. تعد النفس بالصون والزهد والتصوف.. بالرقى والتعاويز.. وعنصر الغواية خائف على دمه.. منكراً كل فنبس ذرّه لها لإغواء طيورها بالنقر منه وقد اتهمته مشعوذاً.. لا من يشركها الفكر: “برغم اختمار الحياة.. رغم اشتعال- المياه- يشحّ بما أغدقته سدرة المنتهى.. ليجفّ لحاء”. ص62.
إذ تفكر مفردة.. لا أحد تشركه فكرها.. لا تلبث أن تتداعى دفاعاً “لأجلك أولمت فتيلي.. لمخبوء وعي.. ولذت بضوء”. ص62.
كادت تمسك عطر لغته.. تنقص منه مطففة كما رغوة من زيزفون.. تقطر.. تورف زيتونه قبل أن تنهمر راضية.. كلّه محضُ خيالٍ في إغماضةِ عين.
وفي قصيدة “عودٌ على بدء”، ولغاية الشغف في نفسها.. تعود إلى حبيبها.. لتحتمي بعباءته.. عائدة تنود برأسها يمنة ويسرة وتندل الأسى مثل نادلٍ في مطعم.. عطوره في أنابيب من بلّور.. فتهدل كما ينثّ غيم ناعم رذاذاً.. خائفة من هجره الذي يتنزل من سمائه، تخشى أن يكتب لدهشتها وانفعالها أن يفقد ظلّه كما هو أشجر السنط الشوكي حيث لا ظلّ له.. وهوي لبس قبعة الرحيل وتعلم أنه تحت سقف لا ترتدى قبعة.. فهو يملك ظلّه.. تتأسف على وقت أضاعاه ولم يركضا تحت المطر متشمرا اللباس عن السيقان كما فعلت بلقيس.. وما تبادلا لغة الحب وما جادت عليهما، حيث الهناءة تلصق الفؤاد.. كما يكبّ كتاب فوق الصدر بحبّ.. كان يكبّان بوجهيهما للأسفل تجاهلاً.. لا نهاية، لا قفلة لهذا، ولا زال في العمر بقية. تلجأ للكتابة والحبر حنّاء تعني أنه زينتها.. تكتب بصبر كما عصفور يبني بيتاً من ورق شجر.. كلّ له وليف، حبيب يصله بوصال، وما بينهما أكثر من صلة.. تغدق عليه الحب والوصل، فيغدق القطيعة.. تهدده بفيضها، يهددها بنقصانه، وللعمر شهية طيبة للحياة، هو في عزّه، لا زالا يحنّان لأغنية البدء بينهما ليبرآ من الهم، لكنه يعاند نفسه، إن ما يحدث ليس حالة مفردة مجتمعياً.. والحب مثل رائحة الخبز الساخن الخارج من التنور.. رائحة تغرف القلب، تشقّ الرأس.. يتناحران كما أبيض وأسود ذكراً أو أنثى ويأثم هذا اللون.. هذه التفرقة الآثمة، إنني ذكر، أنت أنثى- هناك فرقٌ، هناك درجة ومرتبةٌ خلقيةٌ.. لكن هذا لم يثن من عزمها على أن الحب، المعاملة، هو ديدنها.. فتتوسّل إليه أن يرأف بهما، ولا تودّ لعشها الخراب.. هي لا تغالبه، لا تريد التفوّق عليه بلونها الأنثوي، لكلّ لونه.. ستبقى المرأة الحب، الحبر، وتلهج باسمه، نصفها الذكريّ.. تتوسله حتى الفوران في دنيّهما دنان الخمرة.
“وتحلم المرآة”..، تأملتِ السماء الزرقاء ما يعادل ارتشاف فنجان قهوة ولفافة تبغ صنع بالبيت.. تأوهت لعلّها تجبر تاج قلبها وقد انكس

ر، قبّلت مقامات الحب من رأسها لقدمها.. لا أحد يعطي فاهه لقبلة، لكنه يعطيه لسبل من سباب. كان صباغ عمرها أسود بلون الغيرة العمياء.. بلون العبودية.. عوملت بكراهة وازدراء، عُوملت بإفقارها.. وتفريغها من محتواها، “بلون الغيرة كان العمر يراش.. بلون التابع للمتبوع.. فراغٌ يجلب حريّات.. تخوض غمار الآبدة”. ص85.
تأكل اللقمة ذليلة فهي أنثى ستجلب العار إن آجلاً أو عاجلاً لا تعمل، قرّاطةٌ للخبز.. وهي الغنية النفس، لا من يمدّ يد العون للأنثى. “وتعلم أنه لن ينقذها إلّاها” ص86، هي كالأرض السمهدة، الممهدة هي “كالأرض السمهدة”. ص86.
تعاظم الجور عليها، يحزّ رقبتها مثل خيط، مثل حبلٍ من شعر الدواب، يحزّ عنقها، ترى الحاضر غبشاً غير صافٍ وانداح كما زين فوق الماء طفا.. ورسا في القاع ألم زلّاق، يدغم أي يهاجم على غفلة.. وعدم الاحتمال يحكم قبضته على عنقها ويهددها بما فوق قبضته من مدية، أو ما شابه من سلاح- دقت سنابك الخوف، فحّت أفعى في هذه البيداء.. لم تكن لزوجها إلّا نقطة ضعفه التي يخجل منها، كانت: “مضمر قول وشعور مخبوء.. كانت ضعفاً منه يخجل”. ص86. تحوطها خيوط تشرنقها، وفقد اللون لونه صار كالبهاق الذي يصيب الجلد بالمرض.. كلٌّ يسحب يده الخيّرة من الأنثى.. يتهادى صوت مغنٍ عراقي، من نهر دجلة بأغنية عن امرأة التي هي منى، امرأة تزوجت وأنجبت خمسة أولاد، لكنها لما تزل عذراء، بعد ستّ بطون وليست خمس.. كلما امتلأ البيت برجال حضروا لاجتماع حزبيّ في بيتها الزوجيّ، تحسب أنهم جاؤوا لخطبتها، فهي لما تزل عذراء.. انتقلت من غرفة لغرفة، من غرفة أمها لغرفة الزوج الذي يشبه الأمّ بسلطته العمياء، عندما يمتلئ البيت برجال جاؤوا لخطبتها ستغادر بيت الأم، الزوج.. لتتزوج، فهي لا زالت عذراء النوايا.. ستغادر بيت الخوف، استبدلت خوف الأم بالخوف من الزوج، “ستغادر بيت الأمّ.. والخوف يزول”. ص87.
لكن الخوف لم يزل بل تغير اسمه.. لا منجد لها إلّا الله فتدعوه ليعدها بمعاملة لائقة بأنثى، بإنسان. تقول للوعد: (لا.. لا تتعجل، لا تنسئنا وتوخى سدادا) ص87. ترجو أن يعدها ويعطيها ديناً، لكن لينتظرها سترد له دينه ولن تنساه أبداً هذا الدين، لكن ستؤجله. الكره يسود، يحقّ له ما لا يحقّ لغيره كما الشعر يسود أغاني الحياة تنهب رأسها.. لأنها كانت ذات رأس ولا تتبع القطيع كما أريد لها.. وهذا الفكر الذي يجمع ويطرح مسائلاً تروح وتجيء.. كأنها الموت..
وهناك الأخ الطفل لسوء التغذية مريض السلّ الرئوي.. (تعجز قدم عن حمله). ص89 هذا يمشي خطوتين ويقعد أمها تخاف عليها فتمسك رأسها تدقّ به الحائط قائلة: “هذا الرأس يحتاج للكسر”. (أم لا تملك إلّا الخوف، تدقّ الحائط برأس صبيتها، فطيك مصدور يتقيأ، أخلاط دمه والتجفاف). ص89. هناك الطفلة الرضيعة مريضة السلّ والتجفاف تتقيأ وقد فطمت.. والخال يقول لأمه: “أصل المرأة من الأنعام، خطيب الجمعة، قال”. 89.
في البيت جوع ولا كسرة خبز تؤكل والأخوال بذات يسر يراقبون، لا يتدخلون بخير، ولكن يبتعد.. بغياب أن لوحق لإيمانه بفكر آنذاك لم يرض السلطة اعتبرته على حد زعمها فكراً هداماً، أوصى صديقه بأن يقبض مستحقاته غبّ ترك الوظيفة والهرب ناجياً بجلده، إلى بلد مجاور، هذا الصديق أكل المال حراماً، العائلة جائعةٌ بحق، جوعاً أسود، والابنة الصغرى رقدت فوق البلاط.. وقد تدلّى قسم من معيها الغليظ خارجاً، والأخت المتوسطة فتحت كيّاً في ساقها، كما جدتها فعلت مقلدة إياها. نعب بوم الخراب فوق البيت..، وقد أيقظتها الأم خائفة من البوم ليلاً، هكذا الحدود المهاترة، وقشعرة الأبدان في الخوف، كان البيت مظلماً بغير الأبّ وحنانه، والأخوال، كما الغربان ينتظرون تهاوي هذا البيت..، كما تنتظر الجيفة، وماتت الابنة الصغرى.
رقم العدد ١٦١٤٨

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار