بقلم: الشيخ الدكتور ربيع حسن كوكة
وَإِصلاحُ القَليلِ يَزيدُ فيهِ
ويربوا بالمديح بكلِّ وادي
وفضحُ الفاسدين صلاحُ قومي
وَلا يَبقَى الكَثيرُ مَعَ الفَسادِ
رغم أن جميع التشريعات السماوية قد نهت عن الغيبة التي هي: (ذكرُك أخاك بما يكره)، وشددت على تحريمها صوناً للناس، وتأليفاً بين القلوب، وحفاظاً على تماسك المجتمع وتآلف أفراده، غير أن تلك الغيبة تُصبحُ مباحةً عندما تقف في الطرف المُقابل للفساد بأنواعه وأشكاله المُختلفة.
فالحديث عن مواطن الفساد والإفساد والدلالة عليها ليحذر الناس منها ليس من قبيل الغيبة ولا النميمة المحرّمة. تماماً كحديث المريض عن ألمه للأطباء ليُعرف الداء ويُوصَف الدواء، ويحصل الشفاء.
ولولا ذلك لَشكَّلَ تحريمُ الغيبة غطاءً وسياجاً قوياً للفساد وأهله، ولَـمَنعَ أهل الإصلاح من القيام بدورهم الأساسي في الدلالة على موطن الفساد ليُعرف ويُزال.
إن ما دفعني إلى البدء بهذا الكلام حوادث تتكرر من البعض تُثير في النفس دواعي الأسى، عن الفساد والمفسدين في وطنٍ انهكته الحروب والمؤامرات، ومواطنٍ أعياه البلاء والغلاء.
أورده ابن الجوزي في كتاب “أخبار الحمقى والمُغفلين” أنه قيل لبعض البُلَهاء وكان يتحرى من الغيبة: ما تقول في إبليس؟ فقال: أسمع الكلام عليه كثيراً والله أعلم بسريرته.
هذا الغطاء الذي يوفّره الفهم الخاطئ لمعنى الغيبة لا بدَّ أن يُزال وذلك بتوضيح الحالات التي يُباح فيها الكلام عن الغير ولا يكون ذلك الكلام غيبة معصية. وهذه الحالات هي:
أولاً التظلّم لنيل الحقّ: ولا يكون التظلّم إلا بذكر ما يكرهه الظالم، أي باغتيابه ودليل جواز ذلك قوله تعالى: {لا يحب اللّه الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم } [النساء : 148] حيث لا ينال الحق إلا بذكر الظالم بالرشوة أو التباطؤ في العمل أو السرقة أو غيره… وفي الحديث النبوي الشريف: (إن لصاحب الحق مقالاً) رواه الشيخان، وفي حديث آخر رواه أصحاب السنن قال صلى الله عليه وسلم: ( لَيُّ الواجد يحل عقوبته وعرضه ) أي تأخر القادر عن سداد دينه يبيح لصاحب الدين طلب عقوبته والتحدث عنه بما يكرهه.
ثانياً إِزالة المنكر: وذلك بالدلالة عليه، ونقرأُ في السيرة النبوية ما يدلُّ على ذلك فقد أخبر زيد بن الأرقم النبي صلى الله عليه وسلم ما قاله أبي بن خلف والذي نقله إلينا القرآن الكريم{ لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل } [المنافقون: 8]، وكذلك تبليغ عبد الله بن مسعود للنبي صلى الله عليه وسلم أن بعض الناس عاب قسمته للأموال، وغير ذلك من الحوادث ولم يُنهى من قام بنقل الحديث لما في ذلك من المصلحة العامة في رأب الصدع وإزالة المنكر وتوضيح الحقائق.
ثالثاً الفتوى: فقد استفتت هند بنت عتبة النبي صلى الله عليه وسلم في زوجها أبي سفيان: إنه شحيح ولا يعطيها ما يكفيها، فسألته عن جواز أخذها من ماله دون علمه للنفقة (رواه الشيخان) فلم ينكر عليها صلى الله عليه وسلم وصفها له بالشُّح أو البُخل. وذكر الصحابة أمام النبي امرأة تكثر من الصلاة والصيام ولكنها تؤذى جيرانها بلسانها، كما رواه ابن حبان وصححه الحاكم، فقال: (هي في النار) ولم ينكر عليهم أنهم عابوها بذلك أو اغتابوا.
رابعاً التحذير من الأشرار: كقول النبي صلى الله عليه وسلم عندما استأذن بالدخول عليه أحدهم منبّهاً إلى شرّه وشقائه: (بئس أخو العشيرة).متفق عليه. وهذا يدل على جواز كشف فساد الفاسدين وشر الأشرار وبدعة المبتدع وفسقه حتى لا ينخدع الناس به، وفي ذلك توعية ونصيحة للناس للبعد عن شره.
خامساً المشورة: كالمشورة عند الزواج لمعرفة حال العروسين، فالمستشار مؤتمن كما ورد في الخبر، وكذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم للصحابية فاطمة بنت قيس عندما استشارته في اختيار أحد ثلاثة تقدموا لخطبتها وهم معاوية بن أبي سفيان وأبو جهم وأسامة بن زيد فقال عن معاوية بأنه صعلوك لا مال له، وقال عن أبي جهم أنه لا يضع عصاه عن عاتقه، ونصحها أن تتزوّج أسامة بن زيد. والحديث في صحيح مسلم. ومنها المشورة عند شراء شيء فيذكر العارف بعيوبه ما فيه من عيوب، لكي لا يقع الناس في الغش.
سادساً الدلالة على المُعلنين لفسقهم وفسادهم في المجتمع: فمن كان لا يُبالي بفساده وفسقه ومعصيته، ولا يتحرّج من ذلك بل يُجاهر فيه ولا يعبأ أن يذكره الناس بالسوء، جازت الدلالة عليه، فقد رُويَ في الحديث النبوي قوله صلى الله عليه وسلم: (أترعون عن ذكر الفاجر؟ اذكروه بما فيه يحذره الناس ) أخرجه أبو يعلى والترمذي الحكيم. فمن لم يستحِ من الناس و(من ألقى جلباب الحياء فلا غيبة له) كما ورد في الخبر، وكذلك ورد قوله: (ليس لفاسقٍ غيبة) رواه الطبراني، وقال عمر بن الخطاب (ليس لفاجر حرمة).
سابعاً الدلالة على الأشخاص بشهرتهم: إذ ليس من الغيبة أن يذكر الإِنسان غيره بلقب يُعرفُ به ويشتهر بين الناس، ولا يكاد يُعرف بغيره ، كالأعرج والأعمى والأسود وغير ذلك.
وهكذا يتبيّن من خلال الحالات السابقة أن التستر على أهل الفساد وعدم الدلالة عليهم ليس من الدين في شيء، وأن الحديث عنهم ليحذر الناس منهم ليس من الغيبة التي هي معصية من الكبائر.
وقد سُئلَ التابعيُّ مجاهد عن الرجل الذي تَحْرُم غيبته؟ فقال: رجلٌ خفيف الظّهر من دماء المسلمين، خميصُ البطن من أموالهم، أخرس الّلسان عن أعراضهم، فهذا حرام الغيبة، ومن كان سوى ذلك فلا حرمة له، ولا غيبة فيه.
وعلى ذلك – وبنية الإصلاح لا الشماتة والأذى والتشهير – فالإخبار عن الحرامي والمرتشي والذي ينهب الأموال العامة أو الخاصة دون وازعٍ من ضمير، وفضح سلوك المفسدين في الأرض الذين يُهلكون الحرث والنسل، والتنبيه على أهل التقصير كل ذلك ليس من الغيبة أو النميمة.
اللهمّ نظّف مجتمعنا من الفساد، وأصلحنا ظاهراً وباطناً، وكن لنا عوناً على فعل ما يرضيك يا أرحم الراحمين.
رقم العدد ١٦٣٣٤