بقلم عبد الخالق قلعه جي
بلهجته الآمرة.. عندك خمسة.. طلاع.. هكذا خاطب مشرف الخط سائق الباص الذي لم يكن لي خيرة في أن أستقله أو أصعد إليه مساء ذلك اليوم المزدحم بمواعيد عمل وزيارات ومتابعات لبعض التزامات وشؤون صغيرة وأخرى كبيرة.
من ساحة الجامعة يتحرك الباص الهوينا باتجاه جامع الفرقان.. ربما الاكتظاظ الإضافي هذه المرة حمل لي كثيراً من تفاصيل كانت تمر شؤوناً صغيرة لا تثير اهتماماً – كما يقول نزار – و دون التفات.
تبرع أحدهم لجمع ثمن تذاكرنا نحن الخمسة، الذين صعدنا من الباب الخلفي للباص، لننضم إلى جوقة الركاب الجالسين منهم، والسابقين الواقفين الذين أَعمَلوا كل رشاقاتهم المتاحة، علهم يجدوا وضعية ملائمة لوقوفهم، تستثمر كل المُسَيْحات البينية كما لو أنهم قطع التركيب “البزل” في لوحة ألعاب الصغار و الكبار.
من يد لأخرى تعبر “الخمس ميَّات” من بين الرؤوس وفوق الأكتاف المتلاصقة لتصل السائق.. عين على الطريق.. والأخرى لعد النقود وقطع التذاكر التي تشق طريقها أيضاً في رحلة إياب لتحط الرحال في أيدينا.. بحذر وحرص شديدين نمسك بها، أو في جيب ندسها، فلربما راق للمفتش هذا الازدحام ليقوم بممارسة وظيفته تلك.
غير مُجْد أن يأخذك التدافع القسري وحالة الانضغاط والانحشار الذي تجد نفسك فيه إلى تعكير صفو مزاجك.. قليلاً من الوقت وتصل.. لا عليــــك.. دعــــك مبتســــماً أو مثــــل هــــذا البــــاص ضــــاحكاً مــــن تــــزاحم الأضداد.
مازلنا في الموزع الذي استقبلنا على أعتاب الباب الخلفي للباص، وحيالي ما كانت غادة حسناء.. إنما شاب يحاول ما استطاع مطمطة رقبته من بين الركاب، ليستطلع المكان في القسم الخلفي الذي إن حالفك الحظ يُصْعِدُكَ إليه عبر درجة فأخرى ثم ثالثة في نهايته فتنظرهم، ولكن رويداً لا اختيالاً على رؤوس العباد.
بعد لأْيٍ وجد هذا الشاب بعض فراغ يمكن أن يحل فيه على مراحل.. تنهد الصعداء.. انجازٌ – حقيقة – يرقى إلى درجة الباص أقصد درجة الحلم..
ومع أني لا أتفق معها مقولة “ما حدا أحسن من حدا” رحت أتحين الفرصة لأنعم ببضع سنتيمترات مربعة أُثَبِّت بها بعض حلمي المؤجل بالصعود إلى هناك.
للأمانة الجميع يتعاون مع السائق، بأن راكباً سينزل وآخر قد صعد “روح خالص”…. جميلة هذه الموسيقى، موسيقا الهيدروليك، التي تعلن بدء فتح الباب وإغلاقه.. على وقعها والمشاهد، قفزت تلك الفرقعات الصحفية.. ليته كان معي.
ينتصف الطريق.. أصابعي اليمنى تتنقل ملتفةً على المساند الأفقية أو العمودية، التي جُعلت للركاب الواقفين منتصبي القامة، ليمنع عنهم تأرجحاً و يجنبهم حرج التهاوي لحظة “فرام” مفاجئ.
الأصابع اليسرى تقوم كل حين، بتحسس جهاز “الموبايل” لتطمئن عليه خشية سقوط أو استعارة دائمة إلى غير رجعة.. هو في مكانه.. حمداً لله.. وأنا في مكاني أيضاً لم أزل.. أمنِّي النفس أن أصعد درجةً حتى لو بقيت واقفاً أو أحظى بعطف كرسي عليا.
شؤون صغيرة لم آت فيها إليكِ.. ولا زعمت أني أتيت لكي أستعير كتاباً.. وأعدو وراء الفواصل، أعدو وراء نقاط تدور.. ورأسي يدور.. ظِلُ ضحكة ذاوية.. أسْرَرْتُها في نفسي.. رباااه كم ضاقت.. يا لأحلامي المتعَبة المؤجلة.
شعور آخر، أني أنا الآن غيري.. شعور بالزهو والنشوة، وأنت تشرف بناظريك على تلك المجاميع، التي تؤوب إلى بيوتها بعد نهارات مثقلة بكل تفاصيل العيش والحياة والأمل المنتظر.. ما أجملكم أهلنا وأروعكم.. كم أنتم جبارون.. ما أنبلكم حقيقة من محبين.
مازالت في سمعي يتردد صداها.. أصوات ضحكات عذبة ووشوشات بينهن.. تصلك ندية، من صبايا بريئات تمسح كل غبارات هذا المشوار الذي تطاول حتى قلت ليس بمنقض..
موقف بعد آخر يقترب الخط من نهايته.. معظم المقاعد خلت من ناسها.. يلتقط الباص أنفاسه.. يستعيد حيويتة ورشيق خطاه، معلناً بدء دورة جديدة أخرى.
شؤون صغيرة ..تراك اكتشفت.. تراك عرفت أني لغير ذاك المشوار قصدت.. باب باص.. تذاكر خمسة وأحلام لن تبقى مؤجلة على درجات.. تسأل ضيوفها المذيعة.. المتعة في الرحلة أم في الوصول.