الفُسيفساء البشرية في أم الحضارات سورية

 

بقلم : الشيخ الدكتور ربيع حسن كوكة

تآخينا وعشنا في رُبانا…
سلاماً منهُ جمّلنا الزمانا
أفاضَ اللهُ نعمتهُ علينا…
بدينِ الخيرِ فضلاً قد أتانا

في الأعياد والحفلات الدينية ليس مستغرباً أن نرى أحد الإخوة المسيحيين بين الحاضرين قد جاء مُهنئاً؛ تماماً كصورة المسلمين الذين يدخلون الكنائس مباركين بعيد الميلاد المجيد.
إنها سورية الحضارة والعيش المُشترك؛ سورية اللوحة الفسيفسائية البديعة التي تضمّ جميع أبناء شعبها في إطارٍ واحدٍ بصرف النظر عن معتقداتهم، سورية السلام؛ السلام الحقيقي القائم على المحبة والعدل وقبول الآخر، إنها سورية الأم التي نسجت سائر أطياف شعبها في ثوب واحد من العزٍّة والإباءٍ، سورية التي حضنت المناضل المسيحي فارس الخوري صاحب الموقف التاريخي الذي لا يُنسى عندما حاولت فرنسا استمالة المسيحيين السوريين، وزعمت أنها تحتل سورية لحمايتهم، فما كان منه إلا أن دخل مع المسلمين لصلاة الجمعة وخطب خطبةً أججت مشاعر الوطنية في القلوب فكان مما قال: إذا كانوا يقولون إنهم جاؤوا لحماية المسيحيين، فأنا أشهد أن لا إله إلا الله، عندها حمله الناس على الأكتاف وساروا به في شوارع دمشق بمظاهرة حاشدة.
وفي تراثنا الحلبي الكثير من المواقف التي تُعبّر عن أواصر المحبة والعيش المُشترك بين المسيحيين والمسلمين في صورٍ ندر أن ترى لها مثيل.
ومما قرأت عن تلك العلاقات الطيبة في مدينتنا الحبيبة حلب ما كتبه الأب فردينال توتل في كتابه “وثائق تاريخية” حيث أورد محاورةً شعرية بين الشيخ عطاء الله المدرّس (ت: 1906م) ورئيس الطائفة المارونية في حلب المطران جرمانوس الشمالي (ت: 1895م) حيث أرسل المطران جرمانس أبياتاً شعريةً من نظمه وقد ضمّن فيها اسم الشيخ عطاء الله بأسلوبٍ بديع قال فيها:
لله شهمٌ نبيلٌ قد كلفتُ به…
حُلو الشمائلِ أرضيهِ ويُرضيني
مدرِّسٌ في رياض العلم نُزهَتهُ…
يجني الفوائدَ من غضِّ الأفانينِ
آنستُ من لُطفهُ أُنساً يؤمِّلني…
تواصل الحبّ حتى يوم تكفيني
هيهات تكفي عطايا الناس بعضهم…
أمَّا أنا فعطاءُ اللهِ يكفيني
فأجابه الشيخ عطاء الله بأبياتٍ قال فيها:
رئيس طائفة المارون في حلب…
جم الفضائل ذو حلمٍ وتمكينِ
أخلاقُهُ حَسُنت والنفسُ منه حلَت…
ولم يزلْ بالوفا والودِّ يوليني
قد يلفظ الدرَّ إن بالنثر فاه وإن…
يفُه بشعرٍ فعن سحبان يرويني
أرى محبَّته في القلب ثابتة…
كأنَّ مبدأها من يوم تكويني
لا لا أُقابلُ أبياتاً له سلفت…
هيهات قد حاز سبقاً في الميادين.
ويستطيع القارئ لتلك المحاورة أن يستشفّ متانة العلاقة ووثوقها بين هذين الرجلين اللذين هما انعكاس لتلك العلاقة الوثيقة بين أبناء حلب بمختلف طوائفها.
وفي نفس المحور نرى تلك العلاقة بين الشيخ عطاء الله المدرّس والأديب قسطاكي حمصي (ت:1941م) حيثُ نقرأ في كتابه أدباء حلب ذوي الأثر في القرن التاسع عشر أبياتاً قال فيها:
لئن فخر الأُلى سلفوا علينا…
بآدابٍ وأشعارٍ حسانِ
فقسطاكيُّ حجَّتناحسانِم…
لعمري ما لهُ فيهم مُدانِ
فتىً في كلِّ وصفٍ قد تسامى…
فليس له على التحقيقِ ثانِ
ومهما قلتُ فيهِ من مديحٍ…
فبالتقصيرِ معترفٌ لساني
فأجابه الأديب قسطاكي حمصي بأبياتٍ منها:
أتدري ليتَ شعري ما أُعاني…
بنارِ غرامها ذاتُ المعاني
فمن آل المدرِّس لي فريدٌ..
به قد بتُّ أبتكرُ المعاني.
ولعل الأيام القادمة تُظهر وئاماً وقوةً في اللُحمة الوطنية لشعبنا العظيم.
رقم العدد 15725

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار