الجماهير- بقلم الشيخ الدكتور ربيع حسن كوكة
نتأمّل في صفحات الكون، نبصرُ أُناساً عاشوا ورحلوا؛ كان رحيلُ البعض ميموناً، ورحيلُ البعض الآخر مأفوناً ونتساءل لماذا؟
إن رصيد الأعمال في صحيفة المرء الخالدة هي السبب، إنه الثواب والعقاب الإلهي، الثواب والعقاب ليس في الآخرة فقط بل في الدنيا أيضاً.
وقفز إلى خاطري خبرٌ قديم مشابه حكاه عمرو بن شيبة حين قال: كنت بمكة بين الصفا والمروة فرأيت رجلاً راكباً بغلة وبين يديه غلمان وإذا هم يعنِّفون الناس، قال: ثم عدت بعد حين فدخلتُ بغداد، فإذا أنا برجل حاف حاسر طويل الشعر قال: فجعلت أنظر إليه وأتأمله فقال لي: مالك تنظر إلي؟ فقلت له: شبَّهْتُك برجل رأيته بمكة، ووصفت له الصفة، فقال له: أنا ذلك الرجل، فقلت: ما فعل الله بك؟ فقال إني تَرَفَّعْتُ في موضع يتواضع فيه الناس فوضعني الله حيث يترفع الناس.
لقد ركَّب الله تعالى في الإنسان صفات ثابتة فطره عليها، وصفات أُخرى متغيرة تترقى وتتردى بحسب جهده وسيره في هذه الحياة، ومن هذه الصفات: التواضع، ذلك الخُلُق الذي يجدرُ بكلِّ ذي عقلٍ أن يتحلى به، هذا لخلق الذي دعت له سائر القيم والشرائع منذ أن وُجد الوجود إلى أن يَرِثَ الله الأرض ومن عليها.
وإذا تأملنا ليس فقط في حياة الأنبياء والأولياء والقديسين والرهبان بل وفي سير حياة العظماء والمُوفَّقين في الحياة الدنيا سنجد أن لديهم خُلُق التواضع بأرضيته الخصبة وإن كان بنسبٍ متفاوتة كتفاوتهم في المجد والرِّفعة.
ولا عجب في ذلك فقد أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن الرِّفعة والمجد والنصر والنجاح مرتبطةٌ بالتواضع حين قال: ( ما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله ) رواه الترمذي. وقال صلى الله عليه وسلم أيضاً: ( ما من أحد إلا ومعه ملكان وعليه حكمة يمسكانه بها فإن هو رفعَ نفسه جذباها ثم قالا اللهم ضَعْهُ وإن وَضَعَ نفسه قالا اللهم ارْفَعْهُ ) رواه البيهقي. إذاً الأمر محسوم، كلما تواضع المرء رفع الله شأنه، وكلما تكبر وتعالى على خلق الله بغير حق خفضه الله وأهانه، فليختر العاقل لنفسه أيَّ المقامين شاء. قال صلى الله عليه وسلم ( طوبى لمن تواضع في غير مسكنة، وأنفق مالاً جمعه في غير معصية، ورحم أهل الذل والمسكنة، وخالط أهل الفقه والحِكْمَة ) رواه الطبراني.
يروى أنه دخل ابن السماك على هارون الرشيد فقال: يا أمير المؤمنين إن تواضعك في شرفك أشرف لك من شرفك، فقال: ما أحسن ما قلت! فقال: يا أمير المؤمنين إن امرأً أتاه الله جمالاً في خلقته، وموضعاً في حَسَبِهِ، وبسط له في ذات يده، فعفَّ في جماله، وواسى من ماله، وتوضع في حَسَبِهِ كُتِبَ في ديوان الله من خالص أولياء الله.
وليس التواضع مجرد لين القول وبشاشة الوجه مع الآخر فقط بل هو الإقرار بالحق والانقياد له وإن صدر من طفلٍ صغير. وليس التواضع ذل ومسكنة، بل هو خفض جناح وعدم استعلاء، وليس التواضع أن نتواضع للناس ظاهراً ونفوسنا التي بين جنبينا تتعاظم وتتكبر على خلق الله بل هو أن نمرّن أنفسنا ونعلمها بأنه لا فضل لنا على أحد، وجميع ما نقدمه من أفعالٍ جيدة إنما هي بتوفيق الله، فنحن جميعاً متساوون. قال صلى الله عليه وسلم: ( يا أيها الناس ألا إن ربكم واحد وإن أباكم واحد ألا لا فضل لعربي على أعجمي ولا لعجمي على عربي ولا لأحمر على أسود ولا أسود على أحمر إلا بالتقوى ).
وقد قيل: أرفعُ ما يكون الإنسان عند الله أوضعُ ما يكون عند نفسه، وأوضعُ ما يكون عند الله، أرفعُ ما يكون عند نفسه.
فيا أيها الإنسان اعلم أنه لا عزَّ ولا نصر إلا لمن تذلل لله، ولا رِفعة ولا جاه إلا لمن تواضع لله، ولا أمن ولا طمأنينة إلا لمن خاف الله، ولا صفقة رابحة إلا لمن باع نفسه لله، فاعمل على ذلك ما استطعت تكن من الفائزين.
رقم العدد ١٦١٥٨