الجماهير- بيانكا ماضيّة
سألت كاتباً ذات مرة: ماهي اللحظات الأكثر متعة وسعادة بالنسبة لك؟! قال: حين أكتب نصّاً ومن ثم أراه منشوراً!. هذه هي اللحظة التي يتحقق بها وجود الكاتب فتجده حينها أكثر الناس فرحاً وغبطة. في هذه الكتابة يحقق الكاتب ذاته، والهدف الذي خلق من أجله. الكاتب الحقيقي لايسعى في الكتابة من أجل المال الذي سيناله على النشر، فالمال الذي يجنيه من إبداعه لايطعمه خبزاً، وخاصة في بلادنا، فما الذي يجعله يثابر على دوام الكتابة؟!
وذات مرة سألني أحد الأصدقاء: هل الفن من أجل الفن؟! أم الفن من أجل المال؟! واستشهد بأسباب إبداع الكاتب الروسي الشهير فيودور دوستويفسكي روايته “الجريمة والعقاب”، إذ كان يكتب لأجل أن يسدد ديونه، فحياته لم تكن مريحة إذ لطالما لاحقه الدائنون وهددوه بالسجن إن هو عجز عن تسديد الديون المستحقة واستمرّ هذا الأمر ينغصّ عليه حياته يومياً حتى وفاته. ما تخبرنا المصادر به عما سبق تأليف “الجريمة والعقاب” أنه في صيف عام 1865 كان دوستويفسكي يعاني من وضع مالي صعب، فلجأ إلى ناشر إحدى المجلات وطلب أن يُقرضه مبلغاً وقدره 3000 روبل مقابل رواية السكران التي سيكتبها لاحقاً، وأرسل اقتراحاً مشابهاً إلى محرر مجلة أخرى، ووعد الناشرين بتقديم المخطوطة النهائية للرواية في موعد أقصاه تشرين الأول من السنة نفسها، لكن الجهتين لم توافقا على طلب دوستويفسكي.
نتيجة لذلك لجأ دوستويفسكي للناشر فيودور ستيلوفسكي وأعطاه جميع حقوق نشر أعماله المجموعة في ثلاث مجلدات ليحصل على المبلغ المطلوب إضافةً لحصول ستيلوفسكي على وعد من دوستويفسكي يقضي بأن يكتب له رواية جديدة في مدّة أقصاها شهر تشرين الثاني من العام 1866 ستسمى لاحقاً بـالمقامر. أتاح هذا الاتفاق لدوستويفسكي تسديد ديونه والذهاب إلى الخارج، وهناك زادت أوضاع دوستويفسكي المالية سوءاً، إذ خسر الأموال وبعض أغراضه الشخصية خلال خمسة أيام عندما كان يتردد على الكازينوهات في فيسبادن، وقد وجه رسالة إلى أبولينيرا سوسلوفا في آب من العام 1865 كتب فيها عن حرمانه من وجبات الطعام وباقي الخدمات التي يقدمها الفندق، ففي هذا الجو “بدون مال ولا طعام وحتّى ضوء” بدأ دوستويفسكي بالعمل على رواية “الجريمة والعقاب”. وحسب الناقد ليونيد غروسمان فإن الأفكار التي احتاجت أوقاتاً طويلة للنضج اكتملت في وضع الانهيار المالي إذ “قدمت للكاتب مزيجاً جديداً وأوضحت له فكرة التكوين الإجرامي”.
ربما استفضت قليلاً في أسباب إبداع دوستويفسكي، ولكن لو لم يمتلك هذا الكاتب الشهير مقوّمات الكتابة والفن، ولو لم يرَ ناشره فيه صفات الكاتب المبدع، هل كان سيدفع له مقدَّماً ثمن طباعة أعماله الكاملة إضافة إلى ثمن روايته الجديدة آنذاك؟! فهل يأتي الإبداع لأسباب كالأسباب الماديّة، أم أنه موهبة خلقت مع الكاتب؟! هنا يكمن الفرق، فرغبة الكاتب في التعبير وممارسة الموهبة التي خلق لأجلها، ومتعته التي يتحصّل عليها وهو يكتب ويعبّر، إنما هي أسباب الإبداع، وهو مرتبط بالإلهام والعبقرية وبالظروف الاجتماعية والسيكولوجية.
كثيرون من الأدباء يكتبون وينشرون ويعلمون بأن هذه المهنة لاتدر لهم أرباحاً، ورغم ذلك يتابعون مسيرة إبداعهم، وهم يدركون أن لا مهنة بإمكانهم امتهانها سوى مهنة الكتابة..فما الذي يجعلهم يثابرون؟! هل يُسأل الطير لم تغرّد؟! ويُسأل العاشق لم تعشق؟! وتُسأل المزنة لمَ تمطر؟!. إنهم مخلوقون لأجل هذا العطاء، ووحدها المتعة التي يجنونها تجعلهم يسيرون في درب الإبداع!.
رقم العدد ١٦٢٤٨