بقلم عبد الخالق قلعه جي
بعد إدراجها على لائحة التراث العالمي ، كثر الحديث عن القدود الحلبية .. وكثرت معها دعوات واجتهادات تقول بشكل القد وتطويره ، وما إلى ذلك من عناوينِ حفظه وصِيَغِ نقله وتقديمه للأجيال القادمة .
في واحدة من مقالاتها ، كتبت الزميلة الصحفية والأديبة بيانكا ماضية أنها استمعت إلى واحدة من أغاني الكبير صباح فخري قصيدة ً بصوت أحد المطربين الشباب وهو يؤديها بلحن آخر مختلف تماما .
بين الحين والآخر تطالعنا أيضاً ، أسماء أخرى لمطربين ولفرق غنائية وموسيقية شبابية ، تقدم التراث الغنائي وفق أسلوبها ورؤيتها وبتوزيع جديد – كما تقول – يتلاءم مع روح العصر .
أغنيات تراثية أخرى في قوالب لحنية متعددة من قدود معروفة وغيرها ، بتنا نستمع إلى بعضها .. وقد أضيف لها بعض كلمات ، مدخلا في محاولة لما يسمى بتطوير الأغنية التراثية وتوزيعها وعصرنتها أحيانا .
لابد من القول : إن بعض ما نستمع إليه من محاولات في هذا الإطار هو على درجة عالية من السوية الجمالية والمتوافقة ، خاصة عندما يكون معد هذا اللحن أو موزعه .. كاتب الكلمات المضافة أو مؤدي هذه الأغنية ( المطورة ) ذا خبرة وتمرس وتاريخ – قد يسمح – له بذلك .
والسؤال الذي يفرض نفسه هنا لِمَ لا يكتمل هذا المدخل كلمات ولحناً ليكون أغنية قائمة بحد إبداعها .
آراء كثيرة تقول بعدم الجواز والسماح بالاقتراب من التراث تعديلاً أو تغييراً ، تحت أي ذريعة أو مسوغ أو حجج واهية يسوقها البعض تبريراً لفعلته هذه ، وتقول بعدم اتخاذ الجمهور شماعةً .. نزولاً عند رغبته أو ذائقته الفنية وسويتها المعاصرة .
الآراء هذه تأخذنا إلى مقاربة في جانب آخر تتعلق بالتراث المادي وبعض معالمه ومكوناته الأثرية والمعمارية .. وتساؤل بعلو الصوت .. هل من الجائز أن نغير في قواعد أعمدة أثرية وتيجان .. بذريعة أنها لا تنسجم والعمارة الحديثة .. ؟ هل من المبرر أو المقبول أن نعتدي على حنايا قوس و تختيمات بإضافة مواد صنعية أخرى لا روح فيها ولا حياة .. ؟ هل من المسموح أن نعبث في باب سوق ؟ أو نشوه واجهة أثرية بطمس زخارف وتجديد لون .. بدعوى أن آلافاً من السنين ، والأخضر الطالع منها والذهبي .. شكلت ذلك اللون .
ربما يستمع زائر مدينة حلب القديمة ، إلى حديث الروح وحجارة التاريخ ، وهي تتمنى وتقول وتحذر إياكم وأنا .. دعوني كما خلقني الله .. دعوني كما عرفتموني وكما أوصلتني إليكم .. أيادي المحبين الغيارى من أبناء قلبي .. وإن كان من يد تمتد نحوي لجَبْرِ كسر ورَتْقِ روح ، فلتعيدني كما الصورة المحفورة في قلوبكم ووجدانكم .
هو ذا أيضاً لسان حال التراث الغنائي في حلب ، وهو ينطق بلسان زمان قيلت فيه ومكان ، بيئة وتفاصيل حياة .. شكلت هذا الإرث العظيم من موشحات وقدود وأدوار وقصائد ومواويل وغيرها .. وكأني أسمعه يقول : ها أنذا وقد وُثِّقْتُ وحُفِظْتُ فأروني ماذا فعلتم من دوني .
بحسب معرفتي المتواضعة ، فإن آفاقاً رحبة للمقامات الموسيقية وإيقاعاتها ولأنماط التلحين وإبداعاتها .. تفتح الباب واسعاً أمام من لم يجد الاستسهال له طريقاً .. وأمام من لم يتكئ على ذلك الإرث العظيم ، إلا ليتفوق على نفسه ، ويدخل سجل حلب بأحرف من ذهب وإبداع .
فعلها مبدعون معاصرون من حلب وفيها ، عبر كلمات جديدة وألحان .. حجزت لنفسها مكاناً في أرشيف حلب الفني ، استمراراً لتراثنا الغنائي الذي مازال الجميع صغاراً وكباراً يستمع إليه ويستمتع ويتمايل طرباً وانتشاءً .
تضيق الأرض على البعض بما رحبت فيخرج علينا وهو يؤدي قصيدة اللؤلؤ المنضود للكبير صباح فخري إنما بلحن آخر جادت به قريحته دون أن يراعي حقاً يفترض أن يكون محفوظاً تجاه أي أحد من أن يناله أو يطاله .
لهؤلاء البعض وبكل العتب والمحبة نقول : لديكم بحور من الشعر قديمه وحديثه ومعلقات وكتاب وشعراء أغنية .. ولديكم كما تكتبون وتزعمون موهبتكم وعلومكم وإبداعاتكم .. أربعة وعشرون قيراطاً صاغوها .. فهاتوا خمسةً وعشرين أو مثلها – كلمات وألحاناً – إن كنتم صادقين .
في لقائي المطول معه عام ألفين ، سألت الموسيقار توفيق الباشا عن تطوير التراث من حيث الشكل والتوزيع ، ومن يحق له القيام بذلك فأجاب : إن هناك من هو أهل لذاك .. الراسخون في الإبداع والعلم ، الذين أمسكوا باقتدار ناصية اللعبة الأوركسترالية والعربية والشرقية والغربية بحيث نحافظ بأمانة على اللحن الأصلي ويتم الاشتغال على تنفيذه بإتقان وبلغة العصر إن كان ضرورياً وفي حدود معينة .
مسؤولية تقع على عاتق جهات معنية غير قليلة ، تجاه إجراءاتِ حفظٍ لهذا التراث الغنائي وحمايته من سرقة وعبث وتشويه .. وربما خطوة غير بعيدة تكون للقدود الحلبية حماية ًلها بعد أن أدرجت ، ولألوان التراث الأخرى ، من أن تستباح أو يظن البعض أن سلالمها واطئة يغيب معها احترام لقدوة أو إدراك لقيمة القيمة .