الجماهير – بيانكا ماضيّة
شيء ما يجذبني إلى الجامع الأموي، فكلما أتت سيرة حلب القديمة، تذكرت الجامع والأسواق، والتفجيرات والشهداء الذين ربما لم تنتشل جثث بعضهم من تحت الأنقاض بعد.
هاهو الجامع الأموي الذي سرقوه وفجّروا مئذنته، قلت لأصدقائي، الذين جاؤوا من سفرهم غير البعيد، ونحن على عتبة الجامع، وهاهو صحنه وقناطره وأبوابه الخشبية المعاد ترميمها بأياد وطنية، وهاهي الأحجار المرقّمة التي ستعاد إلى مكانها. نظرة بانورامية إلى الجامع، وتذهب ذاكرتي إلى اللحظة الأولى التي دخلته فيها، حينها كانت عمليات إزالة الأنقاض والحفاظ على الأحجار القديمة جارية على قدم وساق، وحينها أشار لي د. صخر علبي المهندس المشرف على ترميمه أنهم لم يتركوا شيئاً إلا وسرقوه، حتى الأسلاك الكهربائية من داخل الجدران سرقوها. وجالت عيناي في المكان كله، وأنا أستطلع حجم الخراب والتدمير، ووقعت عيني على نسخ من القرآن الكريم، المحفوظ منها في الخزائن الخشبية، والمركون منها على الرفوف وآثار الدمار تعلوه، وكان التساؤل يلحّ في ذهني: لمَ لمْ يسرقوا هذه النسخ؟!، وحينها طلبت من د. علبي الاحتفاظ بنسختين من النسخ التي تظهر آثار الحرب عليها.
خرجنا من الجامع ودخلنا سوق الزهراوي الذي أعيد ترميمه… هنا في عام 2014 وفي مثل هذا الشهر تحديداً كانت الحرب على أشدّها، وكانت الأسلحة الرشاشة والقذائف الصاروخية تنهال على هذا السوق.. في الأفق غير البعيد كانت هناك بيوت قديمة لم يعد فيها مايدل على حياة، دخلنا أحد هذه البيوت ذات الأبواب المشرّعة للرياح والغبار والذكريات، وربما لحياة جديدة ستعود إليها ذات يوم، لكن آثار الدمار واضحة فيها، النوافذ والقناطر والنقوش على الجدران تعيدنا إلى ماض سحيق، لايمكن لمن عبره ذات يوم أن يمحو أصله، النقوش هي صكّ الملكية، فأنى لمن عبرها أن يمتلكها؟!..
ونحن نتجول في الأرجاء وبين أوراق الشجر المتساقطة، كنا نتساءل: ترى لمن تعود هذه الدار الجميلة رغم الخراب؟! ماهو شعور من سكن فيها إن علم أن هناك الآن من يطأ دارهم؟!.
ثم دخلنا سوق المدينة (بتسكين الميم)، هذا التيه المعقّد، أطول الأسواق المغطاة في العالم والذي يعود إلى القرن الرابع قبل الميلاد، وسافرت بذاكرتي إلى الطفولة، حين كانت أمي وخالتي الخيّاطة تأخذانا معها إلى ذاك السوق لابتياع بعض الأقمشة والخيطان، وكنت حينها أشعر وكأنها رحلة في عالم الروائح والألوان والأشياء والتراث، روائح محلات العطارين والزعتر والغار العريق.
بدأت حركة إعادة الإعمار في هذا السوق، لكنه فقد صبغته القديمة، محال صغيرة يلتصق بعضها ببعضها الآخر، ولكن أين هم أصحابها؟ هل عادوا؟ هل سيعودون؟! أين الأشياء والمعروضات الحلبيّة التي كانت هنا؟!.
وأكملنا طريقنا في هذه الأسواق التي تبلغ سبعة وثلاثين سوقاً، هنا كان سوق العطارين، وهنا سوق الصاغة، وهنا سوق الزرب، وهنا سوق الفرائين، وسوق العبي، سوق السقطيّة، سوق خان الحرير، حتى وصلنا إلى آخر الأسواق الممتدة على طول خمسة عشر كيلو متراً، وهناك من خلال دهاليز العتمة التي يتخلل الضوء إليها من بعض الأطراف كانت الإطلالة على قلعة حلب، وما إن نظرتُ إليها حتى تذكرت حُماتها والأيام الأسطورية التي قضوها دفاعاً عنها، وجملة قالها لي أحد حماتها ذات يوم، ومازالت ترن في مسمعي: لو سقطت القلعة لسقطت حلب كلُّها!.