بقلم: الدكتور ربيع حسن كوكة
اللَهُ كَـــرَّمَ بِـــالبَــيــانِ عِصابَــة
فــي العالَمـيـنَ عَـزيـزَةَ الميلادِ
حَقُّ العَشـيرَةِ فــي نُـبـوغِكَ أَوَّلٌ
فَــاِنظُر لَعَـلَّكَ بِـالعَـشيرَةِ بادي
أَو دَع لِسانَكَ وَاللُغاتِ فَرُبَّمــا
غَنّى الأَصيلُ بِمَنطِقِ الأَجدادِ
إِنَّ الَّذي مَلَأَ اللُغاتِ مَحاسِـنـاً
جَعَـلَ الجَمالَ وَسَـرَّهُ في الضادِ
هي أبياتٌ من قصيدةٍ لأمير الشعراء أحمد شوقي وجدتُ نفسي أرددها في اليوم العالمي للغتنا العربية الذي تحتفي به الأمم الـمُتحدة في كل عام.
إن اللغة بوصفها معدِنُ الحوار هي من أعظم الهبات الإلهية لبني البشر إذ لا يزالُ الحوار هو السبيل الأكثر صواباً لتسهيل التفاهم والتواصل بين الناس؛ وأداةُ الحوار هي اللغة؛ هي الفكر الناطق كما أن التفكير هو اللغة الصامتة.
إن اللغة عموماً قيمة جوهرية كبرى في حياة كل أمة فهي الوسيلة التي تحمل الأفكار، وهي الخزان الثقافي الذي يُمدُّ الأمة بعناصر البناء والتقدم والحماية؛ إنها الماضي والحاضر والمستقبل، يقول مصطفى صادق الرافعي: “إن اللغة مظهر من مظاهر التاريخ، والتاريخ صفة الأمة. كيفما قلّبت أمر اللغة – من حيث اتصالها بتاريخ الأمة واتصال الأمة بها – وجدتها الصفة الثابتة التي لا تزول إلا بزوال الجنسية وانسلاخ الأمة من تاريخها”
إن نسيج لغتنا العربية؛ أحرفها وكلماتها هي القوالب التي اختارها الله تبارك وتعالى لكلامه؛ فكان القرآن الكريم المعجزة الكبرى قال تعالى: {إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون} .
لغتنا هي أقدم اللغات التي ما زالت تتمتع بخصائصها من ألفاظ وتراكيب وصرف ونحو وأدب، مع قدرتها الكاملة على التعبير عن كلِّ ما يجول في العالم أو يُستحدث من أمور؛ إنها أداة التعارف بين مئات ملايين البشر المنتشرين في آفاق الأرض، وهي ثابتة في أصولها وجذورها، متجددة بفضل ميزاتها وخصائصها.
لقد استطاعت اللغة العربية أن تبني حضارةً راسخةً مستوعبةً في ثناياها جميع الحضارات المختلفة المعاصرة لبروزها؛ الفارسية، واليونانية، والهندية، فشكلت مع تلك الحضارات وحدةً إنسانية حضاريةً عالمية المحور، إنسانية الرؤية، وكان ذلك لأول مرّة في التاريخ، ففي ظل القرآن الكريم أصبحت اللغة العربية لغة عالمية، واللغة الأم لبلادٍ كثيرة.
لقد فرّط الكثير من الناس بمكانة اللغة العربية في حياتهم فاستبدلوها بالعامية؛ واخترعوا مقاربةً بين الفصحى والعامية لتكون لغة حواراتهم الرسمية؛ ومزج بعض الناس اللغة العربية بكم هائل من الألفاظ الأجنبية بدعوى التطوّر والرقي على النحو الذي يُعْرَض في كثيرٍ من شاشات التلفزة.
ومن ناحيةٍ أخرى فقد تميزت لغتنا العربية بكثرة المترادفات؛ تحوّلت هذه الميزة في عصرنا إلى مرض لغوي عُضال؛ وانتشر استعمال الألفاظ بمعانيها العامة ففقدت لغتنا لدى أولئك ميزة الدّقة في التعبير؛ مما أدى إلى تداخل معاني الألفاظ وفقد الفكر الدقة والوضوح.
أمام هذه الأخطار العاصفة بِلُغتنا لا بدّ لنا من استنهاض الهمم لتشكيل وعيٍ لغويٍّ، لإعادة لغتنا إلى مكانها ومكانتها في فكرنا ومجتمعنا.