بقلم عبد الخالق قلعه جي
ربما لم يعرف التاريخ المعاصر أجمل من تلك اللوحة التي رسمها أبناء هذه الأرض مع السادس من شباط وقد صهرت سبائك ذهبهم الغالي فما احترقت إلا كعود رند طِيباً وأصالةً ونبلاً… صُورٌ لا أروع ولا أبهى وأطياف تجليات تسامت لهفةً وشهامةً ومحبةً وعطاءً.
في ثوان تطاولت دهراً كان ما كان.. ثواني غُصت بألف آهة وعنوان وسؤال.. إلى ماضٍ بعيدٍ أخذتنا أُوْلاها.. وأخرى إلى قريبٍ غير بعيد وثالثة إلى حاضرٍ الآن، ماضياً لغدٍ نأمل ألا نخشاه، ورابعة إلى قادمات من عقود ومئات من سنين.
سندع جانباً الحديث عن الصفائح التكتونية وعما أتخمت به صفحات التواصل من تنبؤات بلغت معها القلوب الحناجر هلعاً وذعراً ورعباً.
وابل من مواعيد ومواقيت وأرقام نُذُر على مدار الساعة استنزفت ما تبقى من أرواح أثخنتها جراحات أعوام فذهلت بهواجسها البشرية عن أن مقاليد السماوات والأرض ممسوكة بيد خالقها.. لطيفا ً.. رحماناً رحيماً.
نسلم أولاً بالجانب القدري لما حدث يوم السادس من شباط.. وبحقيقة المشهد المعقد كحالة تراكمية للحرب الآثمة على وطننا والتخريب الإرهابي والحصار الظالم الجائر إضافة إلى تراكم عوامل خلل عبر عقود طويلة من الزمان.
بعد الاستجابة الطارئة ومن ثم الانتقال إلى خطة العمل القادمة.. يأتي الوقوف على حجم الدمار والخراب الذي حدث، غايةً في الأهمية.. وقوفاً ليس على الأطلال، إنما عند أجوبة لأسئلة منتظرة، تتعلق بمسألة الأخذ بالأسباب، إن كانت حاضرة فيما مضى؟ وإلى أي حد ستكون أولوية لما هو قادم؟
مـــاذا عـــن العبـــر والـــدروس والنتـــائج التـــي ســـنخلص إليهـــا لنكـــون مـــع خـــط أحمـــر يُشَرِّح الواقع ويعريه لِما قبل زلزال شباط ولِما بعده.. يضع النقاط على الحروف.. والأصبع على الجرح.. يرسم الرؤية والرؤى ويؤسس لمبادئ وسياسات عمل تقوم على النزاهة والإحاطة والمعرفة من حيث التشريع والقرار وآليات العمل والمتابعة والإشراف والمحاسبة لتكون عوناً وسنداً لمن أخذ على نفسه حَمْل الأمانة وحفظها وأدائها بما ينفع الناس، وتكون في الوقت ذاته رادعاً لمتهاون ومقصر ومستهتر وفاسد استرخص أرواح الناس بلا وازع من ضمير.
لعل الخارطة والجدولة والمخطط الصندوقي هي أكثر ما نحتاجه الآن.. ولست طوباوياً عند أتحدث عن المحبة وأضعها أولاً وقبلاً. فهي كالإيمان الذي وقر في القلب وصدقه العمل.. وما أكبر حجم ما ينتظرنا من عمل وأداء أمانات تجاه أهلنا والمكان.
فلسفة القبو في البيوت الحلبية ( العربية ) حيث مؤونة الصيف للشتاء ومؤونة الشتاء للصيف تقول فيما أفهمه إن حساب الغد دائماً يجب أن يبقى حاضراً حضور القول المأثور “كأنك تعيش أبداُ”
في كثير من الأحياء وفي المدينة القديمة، أنى تلفتّ تسمع أنين الجدران المتشققة.. المكلومة والمتصدعة.. وأكوام حجارة مازالت مؤمنةً أن أيادي محبة لابد ستمتد إليها لتعيدها إلى رحمها الذي غادرته وتقرعينها.
بكل تأكيد بين أبناء هذا الوطن الكثير من الخبرات الكفوءة والمحبة والنظيفة والتي تستطيع أن تقف على المشهد بكل تفاصيله وأبعاده الحضارية والمعمارية والاجتماعية والوطنية كما لو أنه بيتها الدافئ الأسري الذي تحرص عليه بكل ما أوتيت من قوة ومحبة ليعود مشرقاً بهياً، وسؤال يليه آخر: من أين نبدأ.. بمن وبم؟ كيف ومتى وإلى متى؟
لعل التساؤل الأهم الآن هو عن الخريطة الحالية المحدثة للمدينة في مناطق مخالفاتها والعشوائيات.. ماذا عن أبنيتها.. على الأرض هي أم آيلة للسقوط أم متصدعة.. السبب في ذلك؟ هل هو الفساد أم الإرهاب أم الزلزال أم مجتمعة كلها. هل من رؤية متكاملة لكل هذه المناطق ستكون ومتى وهل من قرار جريء بشأنها.. هل آن الأوان لمعالجة جذرية حقيقية.
تساؤلات أخرى بانتظار الإجابة عليها تتعلق بالأبنية التي سقطت أو الآيلة للسقوط في عدد من أحياء ومناطق حلب “مثالاً” الزبدية بستان الزهرة الجميلية الإسماعيلية العزيزية ميسلون وغيرها وغيرها.. ماذا عنها؟ لِمَ هوت أبنية وبقيت أخرى.. ماذا عن شاغلي هذه الأبنية في الأولى والثانية.
الرؤية العامة المستقبلية للمدينة تأخذنا للحديث عن المخطط التنظيمي التفصيلي وتأخذنا في الوقت ذاته للحديث عن شروط الترخيص والجديد الذي من المفترض أن يطرأ عليها ما يخص الكود الزلزالي وغيره من الشروط الأخرى التي يجب أن تلحظ كل معايير السلامة المختلفة وهوامش الأمان والتشدد في تنفيذها ومراقبتها والاشراف عليها.
لمختلف حالاته فإن إجراءات الترخيص وآلية الحصول عليه بقدر ما ينبغي أن تكون انسيابية وميسرة بعيداً عن أي تعقيد، فإنها يجب أيضاً أن تخضع لضوابط صارمة تمنع خللاً ومخالفةً وفساداً يجري أحياناً في الغرف القاتـ.ـلة ولعل الانتقال إلى الأتمتة يساعد كثيراً في هذا المجال ويسد كل الذرائع.
مازالت كتب الصف الأول الابتدائي حاضرةً في الذاكرة.. القراءة والحساب.. ما أعمقهما من عنوانين وما أشد التصاقهما إِنْ قليلاً تمعنّا، فالأولى تقتضي الانتقال إلى الثانية إلى الحساب.. حساب من تواطأ أو قصّر في قمع مخالفة تتصل بمخطط أو تنفيذ أو إشراف أو مراقبة وما قد ينتج عنها من تلاعب في نسب مواد البناء ومن تعامٍ عن طوابق إضافية أو عن بناء مخالف بأكمله ومن إزالة أعمدة في طابق أرضي أو جدار ومن تعديات أخرى مختلفة الأشكال والألوان والمخارج.
نعول على الضمير لكنّا على الضوابط نعول أكثر وعلى الاستفادة من أخطاء الماضي القاتلة وعلى إنهاء جدليةٍ تسببت في كثير من المآسي وذلك بالذهاب إلى أن من كان جزءاً من المشكلة لا يصح أن يكون جزءاً من الحل.
ذات يوم غير بعيد وفي أحد الاجتماعات الرسمية قلتها: الاختيار ثم الاختيار ثم الاختيار.. أطلقوا يد من اخترتم وكونوا لها ظَهْراً لتكون قادرة بحق على إنجاز مشروعها بدون عقبات وعراقيل نعرفها جميعاً ومن ثم انتظروا النتائج وانظروها في إطار برنامج زمني محاسبةً وتقييماً.
في الحلقة الأخيرة منه وبعد حادثة زلزال مصر والانهيارات التي تبعته، تأتي خلاصة مسلسل أرابيسك على لسان القدير صلاح السعدني وهو يبحث عن بوابة الخروج من المتاهة ودوائر الفوضى والضياع فيقول:
“اللي حصل ده كان لازم يحصل، لآنو الترقيع ما ينفعش، وزي ما دول كتير عملت احنا نعمل.. ناخد ونطور ونهضم ونعمل لقدام، انما المهم أوي إني نعرف احنا عايزين ايه ونبدأ ونتكل على الله .. نرجع ونقول الحمد لله عشان منبتدي مع بلدنا من أول وجديد وعلى مية بيضة ان شاء الله”.