بقلم عبد الخالق قلعه جي
كانت تحفة فنية، لو قُدِّر لملائكية الصوت فيروز أن تغني من ألحان الكبير الموسيقار رياض السنباطي قصيدة أمشي إليك التي كتب كلماتها الشاعر جوزيف حرب.
في واحد من أبياتها قبيل الختام يقول: أذاكر أنت وجهي، إنه زمن… عليه مرسومة أيامنا الأُوَل.
أهو الحنين الذي يستعر شوقاً ويخطفنا طوعاً لتلك الماضيات، لأيامٍ لم تزل ثوانيها تسري في النفس والروح مسرى الدم في العروق؟ أم هي قسوة أيام، بها مررنا وعشناها قدراً ورضاً وأملاً نبتغي بعدها الحياة.
لعلها تتوهج أكثر تلك الذكريات في رمضان الكريم بما يحمله من صور وألوان قزح تشكلت عبر مئات من السنين، مواجد روحية وعادات وتقاليد، أضحت طقوساً حافظ عليها الناس وأضافوا لها وأحيوها جيلاً بعد آخر.
في البال والذاكرة مسحر رمضان.. طبلته الصغيرة وأشعاره المحببة.. اصحَ يا نايم.. وحد الدايم.. سبح بحمد الله.. العمر مو دايم.. نوح الحمام على الغصون شجاني.. مدفع رمضان.. مئذنة الجامع الكبير وهي تعلن.. حان الآن موعد أذان المغرب.. تراويح رمضان وأذان السحر.. أذكاره وابتهالاته.. رمضان كريم بصوت شيخ المطربين صبري مدلل.
يطبع رمضان أيامه البهية المباركة بألوانه وخصوصيته الروحية وعلاقاته الاجتماعية وصور البيت والحارة والأسواق التي يختص بها هذا الشهر الكريم لتتبدى أكثر تلك القيم وتشرق ايثاراً وتعاضداً وتكافلاً ومحبةً وعطاءً.
بما يسمح الحال، لمَّا تزل عادة السكبة حاضرة بين الجيران أما “الرمضنة” وهي زيارات الأهل والأصدقاء فقد سجلت غياباً مريعاً بسبب الوضع المعيشي الصعب وضيق ذات اليد والانزياح القيمي الذي بدأ يطغى على منظومة العلاقات الأسرية والاجتماعية.
بسطات السوس والتمر الهندي والمعروك، هي واحدة من معالم أسواق رمضان التي تنتشر في معظم حارات حلب وعند مستديراتها وتقاطعاتها الرئيسية، بالإضافة إلى المحال الرمضانية التي تبيع حلويات رمضان من اللقم والمشبك وغزل البنات.. لمن استطاعها،
إذا ماحان وقت الإفطار وأنت في الشارع فإنك ستكون ضيفاً يقدم له كأس من سوس أو تمر هندي أو قطعة من الحلويات لتفطر عليها وإن كنت مازلت في سيارة فسيهرع إليك شاب أو صبية ليقدموا زجاجة ماء وكيس من تمر.. ذهب الظمأ وابتلت العروق.
يعود بك رمضان إلى حارتك الأولى.. إلى بيت الأهل، بيت العائلة الكبير الذي يجمع أفرادها عند السحور وعند الإفطار.. ويعود بي أيضاً إلى المدينة القديمة التي قضيت فيها رمضانات صيف عقداً من سنين حياتي في مقتبلها.
هناك حيث ينتهي بك الطريق القادم من سوق الهال متعامداً مع السور الغربي لمدينة حلب القديمة، وعلى بعد أمتار قليلة من باب أنطاكية، أحد أشهر أبوابها.. بدأت أعزف موسيقا الحجر.. بعد أن تدرجت إليها عبر كتابة الخط العربي خطاطاً وعبر المطرقة والإزميل نقشاً على مرمر وحجر تعلمته على شيوخ الكار آنذاك، الأخوين حج علي وحج عبد الحميد ناولو وحج عبدو عصلة رحمهم الله جميعاً.
منذ ذلك الحين “أواخر السبعينات” كان المحل الذي عملت فيه والذي مازال قائماً حتى الآن والمحال الأخرى يميناً ويساراً والتي تستريح على السور الغربي مُنذَرَة بالإخلاء، بهدف كشف السور الغربي في إطار مشروع إعادة إحياء حلب القديمة وحمايتها.
عشرات من سنين تمضي ولا يد امتدت إلى تلك الحجارة، تتفقد جذوعها.. تسألها كيف أنتِ ولا كيف هي حباتُ تراباتك ولا عن حال عناقيدها وقد غدرت بها عاديات دهر وأياد عابثات، وليأتي زلزال شباط الماضي ويحدث أضراراً بالغة طالت الكثير من معالمها الأثرية.
يومياً من هناك.. من معمل البوظ – الذي مازال يعمل – كنت أشتري لوحاً (قالب بوظ) منه في أيام الصيف القائظة قبيل الإفطار في طريق عودتي إلى البيت بحي صلاح الدين لأصل غالباً مع أذان المغرب ونتناول طعام الإفطار في الفسحة السماوية أو على السطوح تحت عريشة داليتنا وقد أُترعت “السفرة” بما أعددته أمي “العينية أمينة” رحمها الله، وبأطباق السكبة التي كنا نتبادلها مع الجيران.
على الطرف الآخر من الهاتف صديق يتصل مهنئاً برمضان ومباركاً، وليكون في زيارتك قبيل الإفطار حاملاً بيديه الكثير من المحبة والواجب يتمنى عليك القبول ويقدم لك الشكر لذلك.. على فيض أمثال هؤلاء تتجلى كلمة الله، ومن خلال عيونهم تشرق بسماته على الأرض.
نعم أيها الشاعر أما مازلت تسألني: أذاكر أنت وجهي؟ .. نعم.. إنه زمن، عليه أيامنا الاُوَل، مرسومة وفي القلوب.. نستحضرها.. نمشي إليها.. نلوذ بتفاصيلها.. ننشد أماناً وطمأنينة وسكينة.. كعاشِقَين، الخوف في وجهيهما.. إذ ليس بعد اليوم يلتقيان.