بقلم عبد الخالق قلعه جي
بعد استماعي لمقطع من “أهل الهوى” التي حملته صفحة إحدى الصديقات كتبتُ معلقاً:
في كل مرة نستمع إلى أم كلثوم فإننا نكون مع جديد لم نعثر عليه قبلاً ولم تصله آذاننا بعد وندرك أكثر لماذا هي كوكب الشرق.
سألتك حبيبي.. الرائعة الأخرى، مازال ينساب صداها.. ملائكية الصوت فيروز والأخوين رحباني.. انا كل ما بشوفك كأني بشوفك لأول مرة حبيبي.
رغم سعيي أشواطاً بين جنباتها وكثيرِ طواف، أعترف بأني فقط منذ أيام ليست بعيدة – على حين أسىً – لمحت يمينَ بابٍ.. تلك التي منها تبقَّى.. لوحةً، عليها حُفِرَ ذات يوم “مسجد اليتامى.”
المسجد هذا يقوم على يسار طريق خان الحرير المؤدي إلى الجامع الأموي الكبير، ولمّا أزل أسأل نفسي لِمَ لَمْ أر من قبل لوحته.. هل كنتُ قيساً الذي مر برفقة ليلى من أمام قوم يصلُّون فاعترضه أحدهم ونَهَره على ذلك فقال: ما رأيتكم ورب الكعبة.. وإنكم لو كنتم تحبون الله كما أحب ليلى، لما رأيتموني أمر من أمامكم.
لست أدري أهو حب “أهل الهوى” الذي صار عشقاً، أم أنه الجوى والهيام وقد استلب القلب والروح فتجلى آيات وَجْد وغاب عن عيني تفاصيل.
لكأني بهاتيك الحجارة وقد تيتمت، تشكو كما الناي آلام فَقْدٍ وفراق.. ولكأني بها أيضاً أكوامٌ.. أسمع أنين أوراقها.. كتبٌ تيتَّمت وهي لا تدري ونشوتها من كل عنقود ذكرى كانت تُعتصر.
مئات من العناوين في الأدب والعلوم والاقتصاد والفلسفة والتاريخ والتراث ضمها معرض الكتاب في كلية الآداب الذي يقيمه مكتب الاعداد والثقافة والاعلام بجامعة حلب بالتعاون مع وزارة الثقافة واتحاد الكتاب العرب.
صورة الممرات الخاوية المؤدية إلى تلك القاعة الصغيرة التي احتضنت المعرض، أخذتني إلى أمكنة في حلب عديدة تعج بزبائن ومنتظرين أمام محلات ومطاعم مأكولات دون رحمة يتزاحمون رغم غلائها لشراء الصندويش أو الوجبات الجاهزة من مشويات ومشتقاتها ومقليات أو بعض حلويات.
في مكان آخر.. في أحد أسواق حلب الرئيسية الذي تخصصت معظم محاله بالألبسة النسائية ،صورة أيضاً استوقفتني.. جمهرة من سيدات وصبايا وأطفال تقف أمام أحد المحلات، وقد أُنزلت “الدرابية” نصف إغلاقة، فيما أحد موظفي المحل يقوم – ما استطاع – على تنظيم خروج الزبائن ليتسنى لسعيدات الحظ من المنتظرات خارجاً الدخول… أي بؤس وزهدٍ أنتِ فيه أيتها العناوين الساكنة الرفوف، وفينا.. نحن المتيمون.
ما بين تصدُّر احتياجات وتغير موازين وتراجع أولويات، وبين أمواج تسونامي التواصل العاتية التي كشفت شاطئاً كنا نحسبه آمناً.. انحسرت قيم وطقوس وانزاحت، لتحل محلها أخرى ولتطفو على سطحٍ مقولات شكَّلتها سنوات من تراكمات.. كل هالكلام ما بطعمي خبز.
أسئلة كثيرة حول هذه المتغيرات في المزاج العام والذهنية المجتمعية والداء الذي أصابها حتى كاد أن يصبح سمة عامة ووسماً يبتعد عن موروث وتقاليد ثقافية وحِفظ قيم، هذه المتغيرات سببت في بعض أعراضها انصرافَ ناس عن كتاب وعزوفاً عن القراءة.
ليس فقط الوضع المعيشي هو أحد الأسباب.. لا التواصل الاجتماعي ولا الكتاب الالكتروني.. إنما أخرى أيضاً تتصل بـ لمن يكتب “الكاتبون” وماهي العناوين.. شكلها… خطابها.. مفرداتها والمضمون.. أتعزف على أوتار عاطفة وشغاف قلب وتحاكي عقل، أم أن بينها وبين كل أولئك حجاب.
برسم الجهات الثقافية، جملة تلك الأسباب التي من المفترض أن تتشارك العمل عليها وزارات معنية واتحادات وأدباء وكتًّاب ومثقفون وباحثون اجتماعيون عبر برامج عمل مستدامة وأهداف تتجلى بدايةً في بناء خيط وفتح أقنية مع الناشئة – ليست النخب منها والمتميزة فقط – وكذا اليافعين والشباب لكسب ثقة ونيل قبول.
هواجس واحتياجات ورغبات هي بانتظار تلمسها ومعرفتها والوصول إليها والبناء عليها جسراً من فعلٍ ثقافي ونتاجات إبداعية مختلفة.. عناوين تشد المتلقي إلى حالة من الابهار والدهشة والايقاع العصري أولاً ومن ثم العبور به ومعه إلى المضمون الذي يحقق تلك الأهداف.
الحديث عن الكتب والقراءة يقتضي الوقوف على الواقع وقراءته برغبة وعمق وإرادة وخبرة في التشخيص ووصف الدواء والانطلاق نحو مشروع التعافي.. الذي “يُشَدْ شِدُ” ما تراخى.. يرتَقُ ما انفتق ويوصل ما انقطع لينبت من جديد كتاب وتزهر قراءة وتعود صالات الكتب والطرق الواصلة إليها لتحتفي كما هي المطاعم و”الكافيات” بكثيرِ زوار يليق بالثقافة وحضورها ورسالاتها لنكون على شاطئ الأمان الاجتماعي وسكة العبور.
سكة العبور ننشدها محمية محصنة تمسح مرارة يُتْم حجارة وطفلٍ وكتاب.. تطفئ حرقة.. وخطو.. يعرف أين يروح.. واثق لموعد غدٍ نأمل ألا يتأخر.. نمشي إليه دون أن نلتفت وجلين ولا خائفين.. لا كسيري قلب ولا متألمين، سألتك حبيبي.. أهل الهوى تغنِّي العظيمتان.
بإمكانكم متابعة آخر الأخبار و التطورات على قناتنا في تلغرام