بقلم عبد الخالق قلعه جي
نستميحك العذر أبا الطيب فلن نردد معك هذه المرة.. عيد بأية حال عدت يا عيد.. فهناك ليس بما مضى.. إنما بأمر فيه تجديد.
وأطل عيد وانقضى للتو رمضان.. يا شهرنا منا عليك السلام وأنت ترفع الأمل بالرضا والقبول الحسن ونيل الجائزة.
يرحل رمضان طاوياً سجلاً ملأه طيبون أنقياء تمثلاً، تجلى إحساساً بآخر وإيثاراً، فكان خيراً ورحمة وتسامحاً وعطاء.. ودفقات نور أذكت نفوساً فاض بها الشوق فجعلت الموعد إلى الموعد أشهراً تظللها روح هذا الشهر الكريم ومحبته وتساميه.
هو ذا شهر الصيام وقد نوى من بعد المقام رحيلا.. يلملم أشياءه.. أسواقاً.. طقوساً وسهرات، يلوح مودعاً بيد، ومسلماً بالأخرى على أيام فطر مبارك مستودِعاً إيانا عنده وبقية الشهور.
تحفظ الذاكرة الغنائية الكثير من الأغاني التي أبدعها الكبار لمناسبة الأعياد.. يا ليلة العيد.. حبيبي يسعد أوقاته.. صوت السهارى.. أي شيء بالعيد.. وفي العيد عادات الكرام.. ليلة عيد.. “بها لعيد بدي قدِّم هدية، لا دهب لا ورود جورية، طالع ع بالي ضمْ زهرة وقلب، وقدّمْن للعيد عيدية”.
الذاكرة الشعبية تحفظ لنا هي الأخرى أيضاً، صور أهازيج العيد وشِدِيَّاته التي رددناها جميعاً ذات يوم كنا فيه سعداء أكثر.. هكذا يهزج أطفال الحارة حيث يدورون متشابكة أيديهم على الإيقاع السهل الجميل.. بكرة عيد منْعيّد و:
يــا ولاد العيـــد أبـــوكم سعيــد
لفّتــــو حمــرا طربوشــــو حـــديــــد
هذه الشديات كما يقول استاذنا الباحث عبد الفتاح قلعه جي في كتابه دراسات ونصوص في الشعر الشعبي الغنائي.. تبدو كضرب من العبث اللفظي، غير أن استنباش الذاكرة الطفلية القديمة، يؤكد أن الطفل لم يكن يجد في الشِدِّية مجرد عبث لفظي، إذ تحمل إشارات ورموزاً ومتعة بصرية وذكرى بعيدة غامضة.
مازالت في أرشيفي، صورتي الأولى – يوم عيد يعود ربما إلى سنة عمري الخامسة – في حي القصيلة الذي يصافح حرم قلعة حلب، وسط حديقة المبنى القديم لمديرية الأوقاف.. هذه الصورة أرست حجر الأساس في بناء الأرشيف لدي وتفتح الوعي بأهميته وقيمته الكبرى على المستوى الشخصي والأسري والمجتمعي والوطني.
يبدو أن واحداً من طقوس الأعياد كان ارتياد الحدائق.. حديقة السبيل والحديقة العامة بشكل خاص، والسلام على المشتاق الذي لا يذاع له سر.. أبو فراس الحمداني، والتقاط الصور في حرم نُصُبه وأمام بُرَك الماء وتحت القبة الموسيقية.
الكثير من استوديوهات التصوير كانت ترسل كاميراتها إلى الحديقة العامة خاصة أيام الأعياد.. ذكر لي بعضها الزميل الفنان غسان دهبي – الذي كان يحترق قلبه انتظاراً عدة أيام لحين انتهاء تحميض الصور وطباعتها وتسليمها- استوديو الحمراء.. القاهرة واستوديو النيل.
استوديوهات للتصوير أخرى أضافها لي الزميل المصور الصحفي أحمد حفار كان لها أيضاً مصورون في الحديقة العامة، وذلك قبل أن تنتشر كاميرات التصوير الفورية ومن بعدها الكاميرات الشخصية وصولاً إلى كاميرات الهواتف المحمولة… استوديو الزهراء.. أقطاي.. اِيدار.. غرناطة.. بردى واستوديو الأهرام.
أسواق حلب وقفة العيد و(صُوْج) كعك العيد وأقراص العجوة محمولة إلى الأفران لتُخبَز هناك تلك الليلة، التي غالباً ما تجافي عيون الناس النوم فيها.. وليبدأ صباح العيد بصَلاته ومن ثم صِلاته زيارة الراحلين أولاً وبعدها زيارات الأهل والأقارب.
هي بعض من أوراق الذاكرة وصور العيد ومدينة ألعابه التي كانت تقوم في الحارات، حيث تنصب المراجيح الكبيرة، وتتنوع ألعاب أخرى وعروض الفرجة عبر السينما المتحركة وغيرها، فيما الأحصنة كانت سيارات مدينة الألعاب آنذاك.
عناوين كثيرة وتفاصيل أكثر، لن يتسع المقام للعودة إليها ولا لمقاربة أو مقارنة مع ما أضحى عليه حال العيد، وما انتهت إليه عادات وطقوس وتقاليد، وما استجد من أخرى بعيدة عن شكلٍ وجوهرٍ، كان في بعضها.
لن نتحدث عن أسواق حلب هذا العيد ولا عن الأسعار.. لن نقترب من القدرة الشرائية لدى البعض، وانعدامها لدى آخرين صرفوا ما في الجيب منتظرين آتٍ ما في الغيب مازال مأمولاً.
هو الأمل الذي ما غادرنا يوماً، وهو الإيمان والرجاء واليقين، الذي رفعتْه ترانيم وصلوات، لهجت بها قلوب المؤمنين في كنيسة وجامع في فصحٍ مبارك وفطرٍ مجيد.. طوبى للمحبين.
كالصاعقة كان وقع الخبر على الجميع.. صفحات التواصل المحلية في معظمها تناقلت خبر رحيله بكل الحزن والأسى والتسليم بقضاء الله.. تعددت عبارات التعزية والنعي…. ” إذا أحب الله عبداً وضع له القبول في الأرض”
محبة خالصة أعلنت عن نقائها وهي تغمر صفوف الأهل والأصدقاء، الذين غصت بهم صالة جامع الروضة التي استقبلت واجب العزاء في الراحل الذي انتقل إلى جوار ربه الأحد السادس عشر من نيسان الجاري، عن عمر ناهز تسعة وستين عاماً.. الأستاذ محمد ماهر موقع وأنت في ضيافة أرحم الراحمين.. لروحك الرحمة والسلام.